غزّة تحت النّار
غزّة تحت النّار
صلاح حميدة
لا تزال غزّة تقع تحت جولات من القصف والقتل المحدد والعشوائي في نفس الوقت، وما يميّز بعض تلك الجولات الدّمويّة الأخيرة أنّها تأتي في توقيت مفاجىء – نوعاً ما – لبعض الفلسطينيين، وتستهدف لجان المقاومة الشّعبيّة على وجه التّحديد، ويتمّ العدوان باغتيال قادة منها.
بعض المحللين رأى أن ما يجري ليس إلا حلقة في سلسلة العدوان ضد الشّعب الفلسطيني، وجسّ نبض للثورات العربيّة ولتعاطي الشّعوب مع الشّأن الفلسطيني، والبعض رأى أنّ ما جرى عبارة عن محاولة لرفع رصيد إيهود باراك في الانتخابات الإسرائيليّة القادمة، فيما خلص البعض الآخر إلى أنّ ما جرى كان بهدف تجريب قدرات نظام اعتراض الصّواريخ الفلسطينيّة المسمّى بالقبّة الحديديّة، وفحص الجديد في إمكانيّات المقاومة الفلسطينيّة.
من المعروف أنّ إطلاق الصّواريخ والقذائف لا يتوقّف على المدن الإسرائيليّة في الأراضي المحتلّة، ولا يمر يوم أو يومان إلا ويعلن سقوط صاروخ أو قذيفة من قطاع غزّة، وهذا وضع تعتبره دولة الاحتلال مرهقاً نفسيّاً واقتصاديّاً وأمنيّاً، ولذلك تعمد قوّات الاحتلال إلى ضرب القوّة الّتي تسيطر على القطاع، عبر ضرب يدها الضّاربة وهي لجان المقاومة الشّعبيّة، وهي منظّمة أنشئت خلال انتفاضة الأقصى وهناك من يعتبرها "حماس" باسم آخر، وتقوم حركة" حماس" بعمليات كثيرة تحت هذا العنوان، حسب تلك المصادر.
توقيت هذا العدوان ليس صدفة، أو رغبةً بتجربة " القبّة الحديديّة"، فبالإمكان تجربة النّظام في حقل تجارب أسلحة وعدم المخاطرة بالجمهور الإسرائيلي والمدن الإسرائيليّة، ولكن للعدوان الأخير رسائل سياسيّة هامّة توجّه إلى من يحكمون قطاع غزّة، وهذه الرّسائل ليست منفصلة عن مشهد عام يستهدف المقاومة الفلسطينيّة.
فنظام الحكم في قطاع غزّة يعتبر حاضناً للمقاومة الفلسطينيّة بكافّة تشكيلاتها، ويعطيها الفرصة للنّمو والتّطور والبناء والتّدريب، ويحمي ظهرها سياسيّاً وأمنياً، وبالتّالي فالمقاومة في القطاع انتقلت من الأعمال الصّغيرة المتفرّقة إلى العمل وفق استراتيجيّة مقاومة تظهر تطوّراً نوعيّاً في أدائها على الأرض في كل جولة من جولات القتال مع الاحتلال، ولذلك كانت الرّسائل موجّهة بشكل رئيس للحاضنة السّياسيّة للمقاومة، ولم يتمّ اغتيال قيادات كبيرة من الفصائل الّتي كانت تتصدّر الرّد على العدوان على الأرض، واقتصرت المعركة على ضرب مقاتلين واغتيال مدنيين بسطاء، لأنّ دولة الاحتلال شعرت أنّ الرّسالة السّياسيّة والأمنية لم تلتقط من الحاضنة السّياسيّة للمقاومة لتنقلب على المقاومة، فهذه الطّريقة اعتمدها الاحتلال منذ نشأة الدّولة العبريّة مع العرب وكانت في أغلب الأحيان ناجحة، فقد عبّرت جهات أمنيّة إسرائيليّة عن " مفاجأتها" بأنّ ما كانوا يريدونه لم يتمّ، ولم يتم قبول مقايضة حكم القطاع بمحاربة المقاومة على الأرض، وأنّ الصّواريخ استمرت بالسّقوط على المدن الإسرائيليّة حتّى بعد أن طلب الاحتلال وقف المعركة، ولم يبادر أحد لمنع المقاومة من الرّد على العدوان، فضلاً عن حماية ظهرها بالوسائل المتاحة في هذه الجولة الحربيّة، ولذلك فضّل الاحتلال التّراجع بدلاً من التّمادي والدّخول في معركة مع الجسم الرّئيسي للمقاومة في معركة مكلفة هو غير مستعد لها، بعكس ما كان يعلن بأنّه " انتصر أنّ المقاومة أخفقت في إصابة أهدافها، وأنّها عاريّة أمام استهداف طائراته" كما قال أفيخاي أدرعي، فلماذا ركض الاحتلال للمصريين وطلب ووافق على التّهدئة من اليوم الأول، والحقيقة وما أعلنه الاحتلال أنّه تفاجأ من الإمكانيّات النّاريّة لمنظّمات صغيرة، فكيف بمن يملك إمكانيات أكبر بكثير في الكمّ والنّوع؟.
في الفترة الأخيرة حقّقت المقاومة الفلسطينيّة اختراقات واسعة على الصّعيد الدّبلوماسي والسّياسي وبما يخصّ إعادة إعمار غزّة، على المستويين العربي والإسلامي، واستطاعت أن تخرج من الأزمة السّوريّة بأقل الخسائر الممكنة، وحافظت على توازن علاقاتها مع غالبيّة الأطراف العربيّة والإسلاميّة، ورفضت محالولات إقحامها في محاور، وأعلنت أنّ بوصلتها "تتّجه إلى فلسطين فقط"، وظهرت غزّة كنقطة ارتكاز رئيسيّة للحركة بعد ما جرى في سوريا، هذا الوضع الجديد وضع بعض الأطراف العربيّة ودولة الاحتلال في وضع مزعج، خاصّة وأنّهم كانوا يراهنون على انهيار لاءات المقاومة لشروط الرّباعيّة مع تأزّم الوضع السّوري الدّاخلي، ولكن سقوط تلك الرّهانات أمام صلابة الغزّيّين شكل حافزاً لحزمة عقوبات للقطاع، أملاً بإحداث تغيير في المواقف السّياسيّة، والممارسة الأمنيّة على الأرض، وكان العدوان الأخير ذروة سنام تلك العقوبات، لجعل القيادة في القطاع تشعر بأنّ غزّة لا زالت تحت النّار العربيّة والإسرائيليّة، ولإشعارها بأنّه لا مكان لها للذّهاب إليه إلا " القبول بشروط الرّباعيّة، والانخراط بالعمليّة السّياسيّة وفقاً لما تصوغه من قواعد" كما قال أحد الصّحفيين عبر إحدى وسائل الإعلام.
زادت الضّغوطات على القطاع في الفترة الأخيرة، ففي القطاع يوجد " جيش الدّفاع الفلسطيني" كما قال الصّحفي الفلسطيني ناصر اللحام، ومن غزّة تصدر المواقف السّياسيّة الرّافضة لشروط الرّباعيّة، وبالقرب من جدار غزّة لا يجرؤ المستوطنون على الاقتراب، ومن غزّة يحصل الرّدع الصّاروخي مع الاحتلال بقطر عشرات الكيلومترات، وغزّة هي الّتي تقول "لا" لبعض العرب الذين يحاولون تدجينها سياسيّاً وأمنيّاً، ولذلك كانت الإشارة قبل العدوان وخلاله بمقايضة الوقود والكهرباء بإنهاء المعركة مع الاحتلال من قبل جهة رسميّة أمنيّة عربيّة، وبالتّلويح بأنّ رؤوس القادة في القطاع مهدّدة قبل العدوان بأيّام، فالمعركة السّياسيّة مستمرّة وتأخذ شكلاً عنيفاً أحياناً، وهي تهدف في المحصّلة إلى تحويل المقاومين إلى موظّفين، ومنع المقاومة الفلسطينيّة من استغلال التّغيّرات السّياسيّة في مصر، وتذكيرها دائماً أنّها تحت النّار.