إلى أين
إلى أين ؟!!
إبراهيم عاصي *
إلى أين؟؟؟
إلى أين ياأيام؟متى ستنقضين؟إلى أين ياآمال متى ستتحققين؟
أما أنت يا أيام فإني لست أرى لتوقفك أجلاً محدوداً!..هاهو ذا الأفق,الأفق البعيد, إني لأمعن النظر فيه,وأمد الطرف إليه
مهوّماً,متأملاً , قائلاً :ألست تعرف يا أفق,ياأفق الحياة متى ستلقي الأيام عصاها عندك؟ فيجيبني بلهجة الشيخ الوقور, وبحكمة الكهل الرزين..هيهات هيهات يا بني أن تقف الأيام عن المسير ويركن الزمان عن الرحيل.
***************
أما أنت ياآمال فلست سوى محطات في دروب العمر, طويلاً كان أم قصيراً, نستريح عندك كلّما ألمّ بنا التعب, ونلوذ بك كلما دبّ في أوصالنا الكلل , ونركن إليك كلما استبد في نفوسنا اليأس و القلق . لكننا لا نستريح إلا استعدادا للمسير, ولا نلوذ إلا تحفزاً للمضي, ولا نركن إلا لنوطن أنفسنا على ماهو أشد يأساً وأكثر إقلاقاً وأبعد غموضاً!..
************
ها أنا ذا في العاشرة من عمري ..إن أملي الوحيد هو أن أنال (الشهادة) بعد سنة أو سنتين..إني إذا ما نلتها تطاولت إلى مستوى الرجال, ومصاف الكبار ,.. وآنئذ لن أجوع ولن أعرى ولن أياس ولن أشقى ..
لقد انقضت السنة والسنتان ونلت (الشهادة) ..نعم الشهادة الإبتدائية لكنني ما كدت أنالها حتى وجدت نفسي أني مازلت في أول الطريق..إن القمة التي كانت تبدو لي قمة ما هي إلا تل صغير لاذ بسفح الذروة الشامخة السامقة.
إنني أخطأت التقدير إذاً...ولكن لا بأس لامضي ولأتابع فما هي إلا سنوات ثلاث أو أربع حتى يتحقق الحلم العريض والأمل الكبير حينما أنال (الشهادة* الشهادة الحقيقية شهادة الكفاءة .
...وهاهي السنة الأولى وتبعتها الثانية والثالثة والرابعة وأنا معلّق الفكر مستقطب الذهن فلا أستشعر جمال الطريق ولا نضارة المنظر ولا متعة النزهة والمسير . إذاً ألست سأصل عما قريب إلى النهاية ؟ وسأرى ما هو أجمل من الطريق..وسأستقر بناظري على ماهو أنضر من المنظر العابر وستكون حياتي كلها نزهة وأيامي كلها تنقلاً وتخطياً في ربوع الزمان ومسيراً؟؟!
هاأنذا قد وصلت ,وهاأنذا قد نلت الكفاءة* ..ولكن ما بال النشوة مشوبة بالغم ؟وما بال الظفر مقترناً بالهم؟بل وما بال النجاح يخالطه شوب الفشل ؟!لقد أخطأت للمرة الثانيةيابراهيم...إن الطريق مازال طويلاً,وإن الذروة لازالت في منأى بعيد.
هل أقف هنا إذاً؟ لا ...لا..حذار..سر وامض فأنت الآن من القمة أقرب ما تكون. لقد بقي أمامك مرحلة واحدة فقط وسينتهي كل شي..
لقد جزت المرحلة وها إني أنال الشهادة بل شهادتين أخريين ولكني ما وصلت بعد؟!!
على أن الطريق قد تفرع أمامي وامتد..والسبل قد تشعبت في دروبي..إني لأكاد أضل,ولأوشك أن أتيه..لم أكد أرى للطريق نهاية ! ولا للقمة أفقاً..إن الدرب قد امتد وامتد,والذروة قد تطاولت وتطاولت..وهيهات الوصول..
ترى بعد هذا ..أأقف هنا حيث وصلت أم أعود؟!!..
لا لن أقف فها هم أولاء أناس آخرون ماضون..لا لن اعود فإن ذلك مستحيل .
بقي أمامك (الإجازة) فقط..خذها وأنا أقسم لك أنها خاتمة المطاف,وشجرة المنتهى, بل هي الذروة فعلا ومنها ستطل على الحياة من شرفة عالية, وستشرف على الدنيا من برج رفيع..
************
وهكذا فأنا أمضي مستجيباً لهذا النداء العميق..منساقاً وراء ذلك الشعاع الوضيء.. نعم إني أمضي كما كنت أمضي منذ كان عمري عشر سنين,وسأنال الإجازة عاجلاُ أو آجلاً إن شاء الله . ولكن برغم ذلك لن يخف عمق النداء,ولن يخبو بصيص الأمل ,فهنالك بعد الإجازة عمل وبعد العمل اسرة, وبعد الأسرة ذرية, وبعد الذرية فلا يعلم إلا الله ... كل هذا وأكثر ...وأنا لست به إلا مثلاً بسيطاً في آمالي ونموذجاً مصفرا في أحلامي ..إذ هناك من الناس من هو أعرض آمالً, وأكثر أحلاماً ...
فهلاّ ارعويتم أيها الناس بعد هذا قليلاً ؟؟ وهلا أشفقتم على أنفسكم وثبتم إلى رشدكم فخففتم الغلواء وتمهلتم في الميسر ؟
هلا سبرتم غور هذه الحياة, واستجليتم حقيقتها و فهمتم أنها لا تعدو كونها سبيلا يعبر , ومشاهد تكرر وتطوى جيلاً خلف جيل؟
بربكم إذا فهمتم هذا وعرفتموه, فقفوا عند كل زهرة تمرون بها , وأجيلوا الطرف خلال كل روض تخطرون فيه, واسعدوا بكل لحظة تعيشونها..ولا تقولوا غدا سنلقى مثل هذا.. فما فات لا يعود.
(مساء الثلاثاء .6/أيار /1958)
* أديب سوري معتقل منذ عام 1979