لو كرهتني يدي ما صحبتني
لو كرهتني يدي ما صحبتني
د. محمد حسان الطيان
رئيس مقررات اللغة العربية بالجامعة العربية المفتوحة بالكويت
عضو مراسل بمجمع اللغة العربية بدمشق
هذا العنوان من أمثال العرب، والأمثال عصارة التجارب، ومجمع الحكم، وخلاصة الخبرات. وهي إلى هذا اختصار للفصاحة في أحلى تعبير، وتمثيل للبلاغة في أجمل صورة، وقديمًا عُرِّفت البلاغة بأنها الإيجاز، وما ثَمَّةَ أوجزُ من مثل.
وهي في كثير من نماذجها تمثل القيم العربية السامية، ومكارم الأخلاق الراقية، التي جاء رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم متمما لها، وآمرا بها، ومحافظا عليها.
وقد أعجبني ما في هذا المثل من بيان عزة النفس وشموخها، والأنفة العربية التي تنأى بصاحبها عن مصاحبة أقرب الناس إليه إمّا لمس منه نفورا أو إعراضا، حتى إنه ليقطع يمينه التي لا يستطيع أن يستغني عنها إذا ما شعر أنها لا تريد صحبته، ولا تحب رفقته:
فلو رغبت عني يميني قطعتها وفيها لمن رام الوصال وصال
وقد عبر عن ذلك شاعرنا العربي أصدق تعبير حيث يقول:
لا أبتغي وصل من لا يبتغي صلتي ولا ألين لمن لا يبتغي ليني
والله لو كرهت كفي مصاحبتي لقلت للكف بيني إذ كرهتيني
وهو مصداق قول المثقّب العبديّ:
تواعدني مواعد كاذبات تمرّ بها رياح الصيف دوني
فإما أن تكون أخي بحقّ فيعرف منك غثّى من سميني
وإلا فاطّرحني واتخذني عدوّا أتقيك وتتقيني
فإني لو تعاندني شمالي عنادك ما وصلت بها يميني
إذا لقطعتها ولقلت بيني كذلك أجتوى من يجتويني
وتمام المودة وصدقها أن تكون في السر والعلن، وفي الظاهر والباطن، ولذا قال الشاعر:
وليس أخي من ودّني رأي عينه ولكن أخي من ودّني وهو غائب
وقد قالت الحكماء الأوائل: نعوذ بالله من بوائق الثقات ومن الاغترار بظاهر المودّات.
كذا عبر العربي عن عزة نفسه وإبائه، بل لقد وصل الأمر به إلى أن يتجنب الكلام مع من لا يحسن الاستماع إليه، فقد جاء في البيان والتبين لشيخنا الجاحظ:
قال: وحدَّثني مهديُّ بن ميمون، قال: حدثّنا غَيلان بن جرير، قال: كان مطرِّف بن عبد اللَّه يقول: لا تُطعِم طعامَك مَن لا يشتهيه، يقول: لا تُقبِلْ بحديثك على مَن لا يقبلُ عليه بوجهه، وقال عبدُ اللّه بنُ مسعود: حَدِّث النّاسَ ما حَدَجُوك بأبصارهم (أي أقبلوا عليك ورمقوك)، وأذِنُوا لك بأسماعِهم، ولحظوك بأبصارهم، وإذا رأيت منهم فترةً فأمْسِكْ.
وقال بعضُ الحكماء: مَن لم يَنْشط لحديثك فارفَعْ عنه مَؤونَة الاستماع منك.
فإذا كان العربي يأنف من أن يكلم من لا يستمع إليه، ويأبى أن يصاحب من لا يحبه، ويربأ بنفسه أن يتطفل على من لا يريده، فكيف يقبل أناس اليوم في أنفسهم الدنية، حين يعبر الناس عن كراهيتهم وبشاعتهم فلا يزحزحهم ذلك عن كراسيهم، وحين تخرج الملايين مستصرخة بهم أن كفوا أيديكم.. واخرجوا.. وانقلعوا.. وانطردوا.. وانصرفوا..واستقيلوا.. وارحلوا.. واندحروا..(واحلقوا.. وحلّوا عنا..) فيحرفون الكلم عن مواضعه، ويزعمون المزاعم في تفسير خروج الناس ورفضهم، ويزين لهم الشيطان أعمالهم!! وهم لعمري أسوأ من هذا الشيطان!!.
وإذا كان العربي مستعدا لقطع يده إذا ما نفرت من صحبته، واليد من أعز ما يملك المرء، وهي تصحبه عمرَه، فبها يصول وبها يجول، وبها يأكل وبها يشرب، وبها يُسلِم وبها يسلِّم، وبها يستلم وبها يستسلم، وبها قد يسرق أو ينهب، وبها قد يظلم أو يطغى، وبها قد يخدع أو يكذب، وبها قد يسحق أو يمحق، وبها قد يبني قصوره.. وبها يتوعد جمهوره... فما بالك بمن يجمع الخلق على كراهيته ثم يروغ كما يروغ الثعلب ويزعم أن الجميع يحبه؟!
ألا يحق لنا بعد ذلك كله أن نشك في عروبة من يكرهه شعبه ويظل مع ذلك جاثما على صدره، ويسصرخ الناس به أن امشِ، ويأبى أن يتحرك، وتستغيث الأمة من ظلمه وتعسفه وجوره وطغيانه، فما يزيده ذلك إلا طغيانا وظلما!!