مصر في القرآن
د. محمد ممدوح عبد المجيد
بعضاً ممن يسيئون الفهم أو يتعمدون التقليل من مكانة مصر التى سجلها القرآن بحروف من نور بين دفتيه ، يختزلون القرآن الذى نزل بشأن مصر فى بضع آيات ، بل ومنهم من لا يعترف بفضل مصر سوى بأية واحدة ، تلك التى وردت فى سورة يوسف ) وَقَالَ ادْخُلُواْ مِصْرَ إِن شَاء اللّهُ آمِنِينَ ( ، ثم يغالى البعض فى هذا الشطط أيضاً ليذكروا مصر بالتنكير ، أى أنها غير محددة ، غير مقطوعة اليقين بأن المقصود من تلك الآيات التى حملت اسم مصر ، هى أرض مصر ، أرض الكنانة، ولكنها قد تكون أرضاً أخرى ، لأن مصر تطلق على عموم الأرض ، فيقال ، اذهب إلى مصر كذا ، أى إلى قطر كذا أو أرض كذا ، كل ذلك لأجل انتزاع مصر من على عرشها الذى أوجده الله سبحانه لها ، وتحطيم قدرها الذى رفعها الله إليه ، وإطفاء نوره الذى أسبغه عليها ، وصدق الكريم ) وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ (...
والذين يقرئون القرآن ، وتتسع مداركهم له ، ويتقنون فهم لغته ومقاصده ، لا يخفى عليهم مكانة مصر ، تلك التى لم تحُز أى أرض فى الدنيا مكانتها ، ولا مكة ذاتها ، ولم يحز شعب بصفات حميدة فى القرآن بمثل ما اختص الله به شعب مصر.
فعن أرض مصر تحدث القرآن واصفاً إياهاً بالبركة ووفرة الخير فى العديد من السور والمواضع ، فهى الأرض التى حققت أحلام بنى اسرائيل بخيرها وبهائها وعظيم انتاجها من عدسها وبصلها وفومها ، ثم هى الأرض التى كانت خزائناً لطعام وزاد العالم بأسره ، وسميت بخزائن الأرض صراحة فى القرآن الكريم لما فيها من خير ووفرة رزق وسعة نماء ، ولم تسمى خزائن مصر ، كى لا يكون الاسم محلياً ، وإنما قصد الحكيم سبحانه وتعالى بتسميتها خزائن الأرض ، ليذكر الجميع فى كل زمان ومكان بأن مصر وسع خيرها الجميع ، وأفاضت من بركاتها على الجميع ، فساق الكلمات على لسان نبى الله يوسف ) اجْعَلْنِي عَلَى خَزَآئِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (
وفى مصر جرت الأنهار ، ونبتت الثمار ، فكان ملكها يعنى ملك الأرض ، لذا ، كان الملك مدعاة لفخر فرعون بقوله ) أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي (... طبيعة خلابة .. وأرض خصبة .. وخير لا حد له..
ولم يقتصر الوصف القرآنى لمصر على مجرد ذكر اسمها فى بضع آيات ، ولكنه تحدث عنها كثيراً وصفاً وبياناً وتشريفاً ، لدرجة جعلت ابن قدامة يقول بأن مصر احتلت ثلث القرآن.
ولا أرى فى قوله مبالغة ، بل هو الإنصاف فى زمن الأفاكين ، والحق فى زمن المبطلين ، والصراحة فى زمن المنافقين ، لقد أبلغ وأنصف ، وإلا ، فلتذهبوا إلى سورة يوسف بالكامل ، ليس منها حرف واحد خارج أرض مصر ، كل أحداثها مصرية خالصة المنبع نقية المصب ، فأهل مصر هم الذين أكرموه ، وهم الذين قدروه حق قدره ، فرفعوه فوقهم ، وجعلوه ملكاً عليهم..
وأحداث سورة القصص ، وطه ، وجزء من مريم ، وبدايات الطور وجزءاً غير يسير من البقرة ، وآل عمران، ...
كل هذه السور حملت بين دفتيها الحب لمصر ، والإعلاء من قدر مصر.
لقد وصف الله أرض مصر بما لم يصف أرضاً مثلها ، بل تشعر فى وصفه سبحانه بالتفصيل الذى لا إجمال فيه ، فيصف الشجرة المباركة فى طه والقصص ، تلك التى آوى إليها موسى ، ويصف مدنية وحضارة مصر ضمناً على لسان يوسف عليه السلام حين قال ) وَقَدْ أَحْسَنَ بَي ربى إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاء بِكُم مِّنَ الْبَدْوِ ( فوصف بلاد الشام بالبدو ، وهذا دليل ما أروعه على عمق حضارة وعظمة وروعة مصر ، ودليل على ما كانت تتقلب فيه مصر من النعم ورغد العيش ، وخلدت آثار تلك الحضارة تلك العظمة وذاك التمدن فى الأهرامات وصوامع الغلال التى بناها يوسف ، واللتان أعجزتا العالم القديم بأسره ، ثم تصديق القرآن لذلك كله.
وبين وصف القرآن وتجولاته فى أرض مصر ، يقسم سبحانه بتلك الأرض الطيبة فى قوله تعالى ) وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ 1 وَطُورِ سِينِينَ ( ، ليخلد سبحانه جبل الطور إلى قيام الساعة ، ليأتى الأجانب إليه على مدار الدنيا بأسرها ، ليجدوا صغارهم أمام هيبته ، وذلهم أمام عظمته ، فينحنوا له ولربه احتراماً وتقديراً، تلك هى البقعة المباركة ، والأرض الطيبة ، التى خلد الله ذكرها بقوله ) فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِي مِن شَاطِئِ الْوَادِي الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَن يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ( (القصص30)
إذاً ، مصر تسير مع القرآن طولاً وعرضاً ، فتارة يصفها سبحانه ، وتارة يعدها بالأمن ، وتارة يقسم بها ، وتارة ينصح العالمين بالنزول إليها ، فهى أرض طيبة مبارك ما حولها . ولما لا تكون تلك الأرض طيبة ، وهى الأرض التى خشعت لتجلى الكريم سبحانه بنص القرآن ) فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ موسَى صَعِقًا ( .
حتى جبال مصر خرت ساجدة لله ، حتى رمال مصر سبحت وقدست الله ، وهى أرض البركة ، أرض النبات والإنبات ، أرض الصبغ للآكلين ) وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِن طُورِ سَيْنَاء تَنبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِّلْآكِلِينَ ( (المؤمنون 20)
تلكم هى الأرض المباركة التى كانت مهبطاً للنبوات، فهل نستعيد مجدها ونؤمن بعزها؟؟؟ لعل ذلك يكون قريباً....