شعب مصر في القرآن

د. محمد ممدوح عبد المجيد

د. محمد ممدوح عبد المجيد

تحدثنا فى المقال السابق عن أرض مصر، وكيف كانت مكانتها فى القرآن...فما هو حال الشعب فى القرآن ياتُرى

لقد حاز هذا الشعب شهادتين من رب العزة سبحانه بصفتين عظيمتين ، لم يصفهما لشعب آخر على إطلاقه ، الصفة الأولى هى الرجولة ، فشهد القرآن لأهل مصر بأنهم رجال فى موضعين مختلفين ، الأول ) وَجَاء رَجُلٌ مِّنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ (

وصف القرآن هذا الساعى بالرجولة ، لأنه ما سعى إلا لصالح الدعوة ، ولصالح النبى الكريم موسى عليه السلام ، ولصالح دين الله ، لذا أردف بقوله ) إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ ( أى أننى جئت لك ناصحاً لله يا نبى الله لا أريد منكم جزاءاً ولا شكوراً.

وفى الموضع الآخر ، وصف أهل مصر بالرجولة التى لا يسبقها حد ولا يشبعها وصف حين قال ) وقالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءكُم بِالْبَيِّنَاتِ مِن رَّبِّكُمْ (

هذا الرجل آمن بموسى ، عبد الله فى السر ، لا يجهر بدينه ، ولكنه عندما وجد الخطورة تحدق بنبى الله موسى عليه السلام ، وضع حياته فداءاً للدين ، ووضع روحه فداءاً للنبى الكريم ، فخرج عن عجزه ، وفر من صمته ، وأعلن إيمانه أمام الجميع بالدليل لا بالتصريح ، فشهد بالحق أمام فرعون ، وما أدراك ما فرعون ، خاصة إذا ما كثُر حوله المكاسون والمنافقون ، هامان وجندهما ، عصبة ظالمة لا تخشى الله ، وعصبة لا تعرف سوى عبودية الذات وتقديس الأنا.

ويخرج هذا المصرى الشجاع على فرعون فى حاشيته ، وسط وزرائه ، محتمياً بجنده ، ليصفعه على وجهه بلسان المقال ، ليميط اللثام من أمام وجهه ، والغشاوة من فوق عينيه ، ليقول له ، كيف تقتل رجلاً يقول ربى الله ، معه الدلائل والبينات ، ومعه نور من ربه ، هلا استجبت له!!

يقول أصحاب التفاسير أن هذه الكلمات وقعت على فرعون كالصاعقة شديدة الوطأ ، وأنه أمر بقتل هذا الرجل الذى اشترى آخرته بدنياه وصلبه على باب قصره ذاك هو أقصى ما يمتلكه الظالمون.

ولكن روح ذلك الرجل ستظل محلقة فوق رؤوس الظالمين إلى قيام الساعة ، تزلزل كلماته عروشهم ، وتبيد شجاعته بطشهم ، وتلعن حروفه بأسهم وزيغهم هم وكل  من عاونهم.

والنبى الكريم يخبرنا بقوله " أرفع الشهداء عند الله رجل قال كلمة حق عند سلطان جائر فقتله " ...

لقد استحق وصف الرجولة ، استحق خلود الذكر فى أعظم الذكر إلى قيام الساعة ، لأنه بشجاعته صفع الباطل على وجهه فى عز قوته ، وفى نشوة ملكه ، وفى حراسة جنده.

ثم قدم القرآن صفه هى الأروع لهذا الشعب العظيم ، حيث وصفه بالكرم ، فقال سبحانه ) وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِن مِّصْرَ لاِمْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا ( ، والكلام عن يوسف عليه السلام ، والأمر من الرجل الذى اشتراه من مصر لامرأته ، أكرمى العطاء للغلام الصغير ، عامليه كالإبن ، لعله يصبح ولداً لنا .. أبعد هذا الكرم كرم؟!

إنها ألفة المصريين وحسن عشرتهم لكل من يعرفونه ، حيث التعامل بكل مقدمات الطيبة ومقتضيات الرحمة ومشتملات الأخلاق .. حقاً ، إنها مصر ، وتلك هى شهادات القرآن لشعبها .

ثم تجد روعة الوصف القرآنى لنساء مصر ، فشهد لهن بالعفة والحياء ضمناً فى سورة يوسف ، حين عبن على امرأة العزيز سوء صنيعها وقلن ) وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عن نَّفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ ( .. استنكرن عليها ما فعلت ، لأن ما فعلته ينافى تماماً أخلاق وحياء المصريين الذى تشهد به التجربة ويقره الواقع ويسجله القرآن الذى لا يأيته الباطل من بين يديه ولا من خلفه .

ولم يكن تقطيع أولئك النسوة لأيديهن فى اجتماع آخر عند رؤية يوسف عليه السلام ليقدح فى شرفهم ، ولا فى حيائهم ، إنهم لم يتراجعوا عن إنكارهم لفعلة امرأة العزيز ، كل ما هنالك ، أنهم شهدوا بجماله لا أكثر ) وَقُلْنَ حَاشَ لِلّهِ مَا هَـذَا بَشَرًا إِنْ هَـذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ (

ثم يشهد القرآن لنساء مصر فى موضع آخر بالفطنة والذكاء والإيمان ، وذلك بشهادته لامرأة فرعون ، تلك المصرية العظيمة التى ناجت ربها فى جوف الليل ، ) وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ( إنها تبرأت من ظلم وكفر زوجها ، تبرأت من قبيح فعله وسوء عمله ، وآمنت بالله الغالب .. ولم ينس لها القرآن أيضا دورها فى نجاة موسى من فرعون ، حين ناشدته قائلة ) وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا (

أليست هذه المرأة الصالحة نموذجاً مشرفاً لنساء مصر ، وزاد تشريفها بتخليد القرآن لذكرها !!

لقد زكى الله شعب مصر رجالاً ونساءاً ، وصدّقت التجربة ما قال القرآن ، فمن الرجال بحق خرج العز بن عبد السلام وغيره من علماء مصر ، يبلغون رسالات الله ولا يخشون أحداً إلا الله ، ثم خرج الرجال بحق الذين دافعوا عن أرض وعرض الوطن فى حروب متتالية خلد التاريخ ذكرها ، بداية من الاستغاثة بالمصريين لطرد التتار من بغداد وانتهاءاً بحرب الكرامة فى رمضان النصر وأكتوبر العز 1973م.

وشهدت التجربة أيضاً للمصريين بالكرم والبذل والعطاء على مر العصور ، وصدّق الواقع شهادة القرآن لنساء مصر بالإيمان والعفة ، فمن مصر خرجت أنوار العفيفات والعلماء من النساء مثل عائشة عبد الرحمن وهدى شعراوى وغيرهن ممن أرضعن فى ثرى هذا الوطن ، لذا ، وبكل اطمئنان ، يطمئن قلبى إلى أمان هذا البلد ، بفضل أرضه الآمنة ، وبفضل شعبه المؤمن الحيى الكريم ، وتمت كلمة ربك صدقاً وعدلاً ، ولا تبديل لكلمات الله.