البدعة السياسية "التوريث"
البدعة السياسية "التوريث"
م. بلال حرب
* من يقرأ جوهر الاسلام وفلسفته في نظام الحكم، يجد صراحة أن العلاقة بين الحاكم والمحكوم أشبه بحديث المصطفى عليه السلام حيث قال:" مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة، فصار بعضهم أعلاها وبعضهم اسفلها، فكان الذين في أسفلها اذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم، فقالوا لو أنّا خرقنا في نصيبنا خرقا ولم نؤذ من فوقنا، فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعا وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجو جميعا."
علاقة تكاملية بين حق الجماعة متمثلة بالشعوب وحق الفرد ممثلا بالحاكم في إطار من حفظ الحريات والدفاع عن كرامة الإنسان بعيدا عن التزاويق والبهرجة والإيغال في التنظير ولجلجة الساسة.
وعندما قامت دولة المدينة المنورة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم عمقت هذا المفهوم ورسخته في ضمائر المسلمين حتى اصبح كل واحد منهم مسئولا عن تقويم الحاكم إذا اعوج، وقتله لو تطلب الأمر إذا خان واستبد، بما في ذلك خروجه عن الركائز الصحيحة التي ارتسمت في المنهج، ومطالبا بإتباعها والتقيد بها.
في مجال الشورى، يؤدي الحاكم دوره في طرح رأيه على أصحاب العقول والخبرة،
أو ما كان بعرف بأهل الحل والعقد في جو من الأمن والشفافية، ويدافع عن وجهة نظره باللسان لا بالسنان.
فإذا ما بدا أن رأيه قد حاد عن الصواب، نزل على رأيهم بما يخدم مصلحة الدولة.
"وشاورهم في الأمر" ما سر هذه المشاورة مع أن المخاطب قد كمُل عقله، وعنده من قوة القريحة والوحي ما يجعلانه يستاثر برأيه على أثرة منه، وهم ملزمون بطاعته، قال المفسرون: القصد شاورهم فيما ليس عندك من الله فيه عهد من شؤون الدنيا وسياسة الحكم والقاعدة في ذلك:"أنتم أعلم بشؤون دنياكم.."
ومن هذا المنطلق، كان توريث الحكم بدعة سياسية دخيلة على الاسلام. لم نقرأ عن احد من الخلفاء الأربع الذين أُمرنا باتباع سنتهم أنه ورّث كرسيه لمن بعده لدرجة أنهم أبوا تدخل ذراريهم في اختيار من يحكم.
تلك هي النفوس التي خبرها وسبر مكنونها المعصوم عليه السلام، فقال:" عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهدين عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الامور، فإن كل بدعة ضلالة."
فمن اعتقد أن أبا بكر قد أوصى بالخلافة لعمر بن الخطاب رضي الله عنهما، فهو مخطىء، لأن الصديق رشحه لنيل التنافس على المنصب، شأنه شأن من يترشح للإ نتخابات النيابية في وقتنا الراهن، ثم تم اختياره على مجمع من الناس، حيث عُقدت له بيعة عامة في المسجد دونما اكراه أو تزوير، ولو علم الفاروق أن هذا نوعا من التوريث لخلع نفسه، فهو يؤمن تماما أن هذا الامر تكليف لا تشريف.
لكن الاحوال انقلبت، فقام معاوية رضي الله عنه بفعلة قسمت الظهور في استخلاف ابنه يزيد، فعُدُّ هذا انحرافا لفلسفة الاسلام، وانتقالا لما سمي ب "الملك العضوض"، لقد كان شابا خليعا من أُغيلمة قريش، هلكت الامة على يديه .
وهذا ما دفع بالحسين رضي الله عنه للخروج عليه، لأنه رأى ذلك شرخا ضاربا لمفهوم الشورى، وعزلة للمجتمع الاسلامي من ممارسة أدنى حقوقه التي كفلها الاسلام في اختيار من يرعاهم.
في الحقيقة، إن بدعة التوريث شر مستطير، لا تقل اهمية عن بدع العقائد والعبادات. يجب اعادة النظر والاهتمام في هذه القيم . وما وقع فيه الأولون من أخطاء لا يستلزم أن يتحمل اللاحقون تبعات ذلك. "تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم، ولا تسألون عما كانوا يعملون.."