غزو الأدمغة

يسري الغول

[email protected]

تتبارى وسائل الإعلام الاجتماعي والأجهزة الالكترونية اليوم في الوصول إلى عقول المتابعين والسيطرة عليهم ومحاصرتهم بأفكار يراد لها تأسيس استعمار جديد يوازي الاستعمار الموجود على الأرض. ففي ظل خواء الذات ستصبح الأدمغة مستعمرة ويسهل غزوها بسهولة؛ حيث نتعرض يومياً إلى غسل الأدمغة واستعمار العقول حين نجلس أمام شاشات الكمبيوتر والتلفاز وأجهزة الهواتف الذكية وغيرها فتبدأ تلك العملية دون إراقة أي نقطة دم.

ويقول الروائي الفرنسي فيكتور هوجو: "غزو الجيوش يمكن مقاومته، أما غزو الأفكار فلا". وعليه فإن الغرب كان وما يزال يسعى للسيطرة على العقول العربية من خلال عوامل شتى، منها المرئي والمسموع والمقروء والابتعاث والمنح والبرامج والدورات التدريبية وغيرها. الأمر الذي كان له بالغ الأثر في تغير مواقف الشباب اليوم تجاه قضايا كبيرة وعميقة. والسؤال الذي يطرح نفسه: إلى متى سيظل العربي هو المستقبِل بينما يمارس الغربي دور المرسل؟ وإلى متى ستظل الفجوة في الفكر والثقافة والوعي والإبداع بيننا وبين الغرب؟ وهل القوميات أو الثقافات العربية بشكل خاص ما تزال تعيش حالة البداوة وترفض الاعتراف بالنهضة والحضارة والعالم الحضري؟

أتوقع أن تكون الإجابة بلا، ولكن للأسف الانشغال بجزئيات الحياة المختلفة هي من سمحت للآخر ببسط ثقافته وفكره، كما رفض التعرف على المشهد من جميع زواياه واقتصار الأفكار على جوانب وجهات ومواقف محددة تستعين بمدرسة واحدة هو من أوصل الثقافة العربية إلى مثل هذا المنزلق. حتى وصل بنا الحال إلى رفض ثقافتنا ذاتها والتشكيك في كثير منها، وصار تراثنا العربي يعيش مرحلة الانزواء والاندحار. وكم هو مؤلم أن يعرف القارئ بأن الثقافة الغربية تأثرت بالثقافة العربية يوم أن كان لدينا مُثل ومواقف أخلاقية وقيم دينية وإنسانية سنحت لنا بالتفكر والإبداع، فصار ابن سينا والفارابي وابن رشد وابن خلدون الموديل أو القدوة للعالم الغربي وصار طلاب الغرب ينهلون من علم العرب فصنعوا به حضارتهم، في حين تأثر العرب بأطراف مواقف وأفكار الغرب الشاذة عن الثقافة العربية الأصيلة، فغاص العقل العربي في قضايا لا تضر أو تنفع، بل ربما لها من الضرر ما ينفي مزاياها.

ولم يتوقف الأمر عند العلوم فقط، بل استقى الغرب عالمه الأدبي من خلال الأدب العربي، فألف ليلة وليلة الهندية وكليلة ودمنة المعربة على يد ابن المقفع كانت ملهمة لبورخيس وماركيز وغيرهم الكثير من الأدباء في أمريكا اللاتينية وأوروبا. وكانت المقامات العربية كمقامات الهمذاني وابن هشام وغيرها بوابة لولوج عالم القصة القصيرة التي تم صناعتها على يد أنطون تشيخوف ونقولاي جوجول وإدجار ألن بو وغيرهم. حتى الشعر العربي كان بوابة للشعر الغربي وتطوره. لذلك وجب على كل فاعل ومؤثر أن سعى لتغيير الموازين والعودة إلى مربعنا القديم والتأثير على الغرب من خلال إعمال العقول العربية وتطويرها والنهوض بها من خلال الأدب والفكر والفلسفة وشتى العلوم الأخرى.