يوميات بلا أسرار في المخيمات 5
يوميات بلا أسرار في المخيمات
الجزء الخامس
حكاية ثورة
نسيبة بحرو
في صور حلوة بالمادة بس ما حسنت أنسخهم أبدا
ثورة طفلة سورية ، ولدت في زمن بداية الثورة السورية المباركة فاستبشر بها والداها وأسمياها ثورة .. تجسيداً للثورة السورية اسماً وألماً وأملاً ..
عاشت أيامها الأولى في سورية ، حيث شهدت المظاهرات اليومية السلمية التي انتفض بها سكان مدينتها الأحرار ، وما قابلها من قمع وبطش وحشي بأدة النظام .. ثم مع شدة هذا الإعتداء الأسدي المجرم على أمنها وأمانها وذويها ، حزمت أسرتها ما قل وزنه وخف حمله من الأمتعة وغادرت فراراً إلى مخيمات اللاجئين التركية .. فودعت ثورة بهذا الرحيل القسري حلم الطفولة وهي في عمر الشهرين ، وتركته خلفها ليكون شاهداً على حكاية الظلم المرير، ومأساة العدوان والتهجير ..
وُضعت رحال ثورة في المخيمات ، حيث تنعدم ضروريات الحياة بشكل عام واحتياجات الطفولة بشكل خاص ، لاسيما الرضع منهم .. فغدت حياتها عسيرة ، تروي مرارتها الأيام ..
ومما ترويه الأيام حكاية المطر حين هطل بغزارة على المخيمات في حلكة الليل ، كانت ثورة ترقد حينها في مهد صغير رفعته والدتها ببعض الصناديق لتحميها من أخطار الأرض وحشراتها ، إلا أن ذلك لم يحميها من أخطار السماء وتقلباتها .. واستطاعت قطرات المطر المتساقطة أن تشق الطريق، وتجمعت أسفل الخيمة التي تسكنها .. مما أفقد هذه الخيمة التوازن والثبات ..
وسقطت ثورة من علوٍ إلى الأرض ، وتدحرج جسدها الصغير على أرضية الخيمة المائلة حتى استقر في زاوية منخفضه غُمرت بالمياه .. وفي قلب الظلام ، أسرعت والدتها لتتفقد الأبناء فوجدتهم جميعاً وما وجدت ثورة ..
بحثت عنها بقلب يملؤه الجزع ، خبطت بيديها يميناً ويساراً في هلع ، جابت أرجاء الخيمة ذهاباً واياباً .. سكبت من العين دموع الألم .. وحديث النفس يقول : لقد فقدتها ، لقد فقدت ثورة .
واستمرت في بحثها حتى عثرت عليها ملقاة في تلك الزواية دون حراك ، والمياه تغمرها .. حملتها بقلب تعتصره الآلام ، فإذا بقلب ثورة القوي ينبض ، يرفض الاستسلام..
وتتوالى حكايات الأيام بتوالي فصول السنة .. تحبو ثورة ، تخطو ثورة ، تجري ثورة .. وهي لا زالت هناك ، محاصرة بالجفاف والأمطار .. في الصيف ، تمكث تحت أشعة الشمس الحارقة فتبني البروج من الرمال الساخنة .. وفي الشتاء ، تلتجيء الى خيمتها الخاوية بحثاً عن دفء تستمده من جدرانها الباردة ، وتظن أن هكذا هي الحياة ..
ورغم ذلك فإن ثورة كسميتها الثورة السورية ، ماضية في مسيرتها رغم العقبات والصعاب ويرعاها رب السماء .. ترتدي رداء يحمل اسمها ، نُسجت حروفه بالأبيض اشارة إلى السلمية ونقاطه بالأحمر اشارة إلى دماء الشهداء ..
وهي إذ تكبر يوماً بعد يوم ، يبقى حلم الطفولة الذي تركته في موطنها ينتظر مصيره المجهول .. أيموت في مهده وقد فارقته ثورة دون عودة ؟ أم تكتب له الحياة بعودتها اليه من جديد وهي لا تزال بعمر الطفولة وبراعم الربيع ؟
هذه الحكاية ليست حكاية ثورة وحدها وإنما حكاية جميع الأطفال اللاجئين في المخيمات .. تبتعد وتقترب ، تتشابه وتختلف في التفاصيل .. إلا أنها تتمركز حول اطار واحد ، الحرمان .. وحلم الطفولة المفقود .