بعثة دبلوماسية بين بغداد وآخن
د. ضرغام الدباغ
دراسات ـ إعلام ـ معلومات
بعثة دبلوماسية بين بغداد وآخن
مبعوثي كارل الكبير في بلاط هارون الرشيد ببغداد
يوليوس كيوكيرت 1864 Julius Köckert
ازدهرت الدولة العربية الإسلامية ونظام الخلافة في العصر العباسي الوسيط، ابتداء منذ عهد الخليفة هارون الرشيد الذي مثل عصره فترة التألق، ليس للخلافة العباسية فحسب، بل وللحضارة العربية الإسلامية بأسرها، ومن مؤشرات هذا الازدهار، رخاء اقتصادي، وتعميم للثقافة، ساهم في ذلك توصل العرب إلى صناعة الورق، التي نقلت تقنياتها من الصين، فعمت صناعته في المراكز العربية، ومن ثم ازدهرت الثقافة بصفة عامة.
وكان الأمير هرون الرشيد(قبل أن يستلم الخلافة) قد قاد حملة عسكرية كبيرة على الإمبراطورية البيزنطية(779 ـ 781) التي ما انفكت تناكف الدولة العربي الإسلامية وتهاجم مدن الثغور، وتلحق الأذى والأضرار بالمواطنين وممتلكاتهم. فلما تقدم الأمير الرشيد في أراضي الدولة البيزنطية، ملحقاً بهم الهزائم، حتى بلغ مدينة القسطنطينية(استانبول الحالية)، ذات الطبيعة الجغرافية المعقدة، والأسوار الحصينة المنيعة. فحاصرها، فعرضت الملكة أيرني Irene ملكة البيزنطيين الصلح.
قبل الأمير هارون الرشيد الصلح ولكن بشروط وضعها بنفسه، شروط سياسية ومالية. وكانت كما يلي: ـ
1 . أن تدفع الملكة أيرني أتاوة سنوية قدرها 90 ألف و70 ألف دينار على دفعتين، في
نيـسان وحزيران.
2 . أن يحمل رسول من ايرنا الهدايا إلى الخليفة المهدي.
3 . تسليم كافة الأسرى المسلمين.
4 . أن تقدم الملكة أيرني الأرزاق للجيوش الإسلامية لتسهيل عودتهم إلى بلادهم.
5 . مدة الصلح ثلاث سنوات.
أما في البحر، فقد تقاسمت الدولة العربية الإسلامية الهيمنة على البحر المتوسط، إذ استولت البحرية العربية على الكثير من جزر البحر المتوسط : قبرص، كريت، رودوس، صقلية، سردينيا. وقد ظلت بعض هذه الجزر مئات من السنين تحت السيادة العربية الإسلامية.
* * * *
وجدنا من خلال البحث والتتبع للآثار الثقافية على الحضارة الأوربية كم يصعب حصر، هذه التأثيرات والبواعث الثقافية على كافة الأصعدة. وإذا كان بعضها معروف للقراء والمثقفين العرب، إلا أن كماً غير يسير منها مجهول حتى للمثقفين، بحكم انتشارها في متاحف ومكتبات عديدة متناثرة.
وإذا كان جمع هذه المواد لوحدها تمثل مهمة جليلة، نتطلع بعين الرجاء أن تتولى مؤسسات عربية في عمل منتظم في تولي هذه المسؤولية الجبارة. وقد أخذنا على عاتقنا (قدر الإمكان بالطبع) التقاط مثل هذه الآثار وتعميمها، سواء كانت لوحات وصور، أو أبحاث وتقارير وتقديمها للقرار بهدف تعميم الفائدة، ولكن هذا المجهود كالذي يسبح في بحر متلاطم الأمواج !
فهنا على سبيل المثال لوحتان نادرتان: أحدهما لرسام ألماني، يتمتع بالشهرة في وطنه ألمانيا, وهو يوليوس كيوكيرت، عثرنا على هذه اللوحة النادرة التي تمثل الخليفة هرون الرشيد جالساً على كرسيه في بلاطه يستقبل رسل الملك كارل الكبير، واللوحة هي أحدى الموجودات الرائعة لمتحف مكسمليان بميونيخ في ألمانيا الأتحادية. ويصف عرش الرشيد بالفخامة والسجاد الفاخر وروائح المسك والعنبر، وبالأطعمة الشهية.
كما وجدنا صدفة، لوحة نادرة أخرى، للأسف بدون أسم مبدعه، تمثل رسل هارون الرشيد وقد وصلوا بلاط الملك كارل الكبير في مدينة آخن (قرب مدينة كولن بوسط ألمانيا) ومعهم هدايا أخرى عدا الفيل، مثل البسط، والزجاجيات، والعطور والسيوف والأقمشة، وكل هذه كانت صناعات عربية فاخرة، وكان ملوك أوربا يعتزون بحيازتها.
ومن بين هدايا الرشيد للملك كارل الكبير: أسطرلاب شهير عد في حينه من نفائس الاختراعات وقد وجدنا صورة نادرة لهذا الأسطرلاب.
* * * *
تشير بعض المصادر أن الوفود والسفارات المتبادلة، تضمنت محادثات سياسية. فقد كان للطرفان خصوماً مشتركين، متمثلاُ بالدولة البيزنطية، وتقاسم النفوذ في البحر المتوسط الذي كان منذ القرون قبل الميلادية، بحر التجارة. بيد أننا لم نعثر على ما يعزز هذه النبأ أو ينفيه، على أن المصادر الألمانية ترجح وجودها، لكن الأمر يبقى دون إيضاحات كافية.
* * * *
أخيراً وجدنا بحثاً أعده باحثان ألمانيان تضم تفاصيل عن رحلة كبعوثي الملك كارل إلى بغداد والعودة، يمكن أن تمنح فكرة تزيد الصورة وضوحاً للأحوال السياسية وحالة الطرق ومفردات سياسية، وشيء من طبائع البشر !
البحث من تحرير : كلاوس كريفة / فرانك بول، نشرت في نشرة بريد الشرق : صحيفة للثقافة الشرقية. عدد خاص: أب/ أوغسطس/.2003
في العام 797 بعث الملك كارل الكبير(شارلمان) ملك الفرانكيين(الفرنج)، المبعوثين إلى هرون الرشيد في بلاطه ببغداد بهدف تحسن العلاقات. عرف منهم ثلاثة: لانتفريد Lantfried، وزيجزمزند،Sigsmund كمبعوثان، واليهودي أسحاق Issak كدليل، والذي عمل مترجماً بنفس الوقت.
ولا تتوفر معلومات كثيرة عن رحلة الذهاب. ففي شمال إيطاليا التقى الركب الفرنكي مع الغراف جبهارت فون تريفيزوGrafen gebhard von Treviso الذي قرر بنفس الوقت أرسال مبعوث منه إلى القدس، وهناك، في القدس افترقت الطرق، فيما واصل لانتفريد وزيجزموند وإسحاق طريقهم صوب بغداد.واستغرقت السفرة والإقامة في عاصمة الرشيد عاماً كاملاً، تبادل فيها الطرفان الهدايا والمفاوضات السياسية قفل الفرنكيون عائدين إلى وطنهم.
ومن ضمن الهدايا التي أرسلها الخليفة الرشيد إلى كارل الكبير، فيل (أبيض ؟)، وحسب المصادر الأوربية، فإن هذا الفيل الأبيض كانت رغبة الملك كارل الكبير.
ولكن رحلة العودة لم تكن حسنة الطالع، إذ توفي كل من لانتفريد، وزيجزموند خلال الرحلة، فيما تعين أن يقوم إسحاق بخدمة الفيل وسائر عناصر الرحلة ومواصلة الرحلة ولم ينجح بذلك إلا بشق الأنفس: وفي 13 تموز يوليو 802 وصل الركب ومعهم الفيل إلى عاصمة كارل الكبير، آخن.
وكان إيصال فيل من بغداد إلى آخن يبدو عملاً ينطوي على المجازفة والمغامرة ليس فقط من النظرة الأولى، بل هو كذلك حقاً. وكان الطريق عبر كليكيا، ثم الأناضول ، منها عبر القسطنطينية(أستامبول الحالية)، ومنها إلى البلقان إلى وسط أوربا الطريق الأكثر قبولاً، وكان هذا الخط في العصور القديمة (قبل الميلادية والعهود الميلادية الأولى)، الأكثر أستخداماً للوصول إلى العاصمة الرومانية، وكذلك من قبل الحجاج الذين كانوا يقصدون القدس من الرومان أو من الجرمان، وعبور الممر المائي البسفور، الضيق يقلص من حجم مخاطر الرحلة البحرية. ولكن إسحاق لم يختر هذا الطريق. لماذا ...؟
تعرضت الخارطة السياسية لمنطقة حوض البحر البيض المتوسط لتغيرات مهمة، والسفر عبر القسطنطينية، كان يعني العبور في أراضي كانت في ذلك التاريخ تحت سيادة عاصمة الإمبراطورية البيزنطية السياسية والعسكرية، والدخول في تسع مناطق تابعة لسيادة البلغار والصرب. ولنفس الأسباب والظروف كانت تخضع لها الطرق البحرية من اللاذقية على إيطاليا، والتي تجنبها مبعوثوا كارل الكبير في رحلة الذهاب، والسبب: تجنب الأساطيل البحرية البيزنطية التي كانت تسيطر على منطقة شرقي المتوسط.
أنعطف إسحاق في رحلته صوب الغرب، وسار دائماً بمحاذاة البحر المتوسط، سائراً في المناطق التي تحت سلطان الخليفة العباسي الرشيد. في طرق كانت ممهدة منذ العهد الروماني، من ضمن شبكة الطرق التي جرى أنشاؤها بعناية التي تمت في الولاية التي كانت بعهدة أنطوني أوغستي Antonini Augusti، احد عمال القيصر كاراكلا 211 )Cracalla ـ 217 ق.م) .
ولذلك كانت طريق الرحلة البديلة طويلة: بين مصر وشمال أفريقيا، التي كانت فيما مضى ولاية أفريقيا التابعة للدولة الرومانية (دولة تونس الحالية)، لم تكن هناك سوى أمكانية وجود طريق ضيق يمتد بين البحر المتوسط والصحراء، والذي أتخذه إسحاق، وهو الطريق الأكثر أماناً، تخبرنا مصادر الدولة الفرنكية، أن المبعوثين كانوا في حماية ومساعد الأمير إبراهيم، عميد أسرة الأغالبة، الذي كان الخليفة هارون الرشيد قد أرسله لإدارة وقيادة ولاية أفريقيا عام 800م . حيث قدم لهم بواجب الضيافة والإكرام. كان قد أتخذ من مدينة القيروان التي تأسست في القرن السابع الميلادي(شيدها القائد عقبة بن نافع) مقراً لإمارته، التي لم تكن واقعة ضمن شبكة الطرق الرومية، بل على مسافة جانبية منها، على طريق مهم للقوافل التجارية بين الميناء تونس ومدينة المهدية، من جهة، وأواسط وجنوب الجزائر من جهة أخرى، وليس من المعروف بدقة فيما إذا كان إسحاق قد أقام في القيروان أو أنه توجه دون إبطاء إلى الساحل، إلى أحد الموانئ، من المرجح أن يكون تونس.
ومن المحتمل أن يكون إسحاق قد انتظرهما حتى وجد سفينة تقله إلى البر الأوربي المقابل. والطريق الآخر كان يمتد على ساحل شمال أفريقيا، بمحاذاة البحر المتوسط، ومن ثم عبر شبه الجزيرة الإيبرية من أجل العودة إلى بلاد الإمبراطورية الفرانكية، كان سيعني رحلة ودورة طويلة، ولكن لأسباب سياسية لم يكن حكيماً. ففي المغرب كانت الأسر: الرستمية والأدريسية قد كونت مراكز نفوذ قوية هناك، حيث لم تعد خاضعة لسلطان الخليفة، وفي شبه الجزيرة كانت الأسرة الأموية هناك، التي كان أبو العباس جد الخليفة هارون الرشيد قد تمكن من إسقاطها عام 750، وعزلها عن السلطة، وفي مناطقهم تلك حيث ليس للركب العائد أن يتلقى أي من أشكال الدعم أو الحماية.
لم يستطع إسحاق تدبر سفينة تأخذه مع الفيل إلى البر الإيطالي، إذ كان إبراهيم بن الأغلب في تلك المرحلة بالذات في حرب مع البيزنطيين على صقلية، فلم يسعه أو لم يكن يرغب بمساعدته، فالأمر يتعلق بعدة أطنان من الوزن التي كان الفيل يمثلها، وهو ما لم تكن العديد من السفن التي كانت تمخر في البحر المتوسط تقبل به.
فقط، وجدت المشكلة طريقها إلى الحل، عندما كان هناك أسطول بحري تابع للملك كارل الكبير، وبواسطة أحد سفنه الكبيرة، تم نقل الفيل من بر شمال أفريقيا إلى برتوفينا Portoveere ليس بعيداً عن موقع سبيتزيا الحاليةLa Spezia شرقي ليجورين Ligurien وبذلك كان الحل لمشكلة عبور البحر المتوسط. واجتازت السفينة المنطقة البحرية الممتدة بين جزيرتي صقلية وسردينيا اللتان كانتا خاضعتان للبيزنطيين، ولكنهم مروا بسلام بين سفن قراصنة ولصوص بحر التي كانت نشطة في المنطقة غرب البحر المتوسط بين مصب نهر الرون وساحل بروفنزا، وتحيلها إلى منطقة غير آمنة.
ومن بروفنزا، مضت قافلة المبعوثين في أكتوبر من عام 801 ، من المرجح عبر جنوة الإيطالية وبافيا Pavia صوب فرساي من قضاء الشتاء في القصر الملكي هناك. وفي الربيع، كانت أمامه مضائق سلسلة جبال الألب، أختار الركب طريق بيرنهارد لعبور الألب مواصلاً سيره صوب الغرب. ولكنه كان عليه أن يختار أفضل الطرق لاجتياز مضائق الألب الشرقية، مضيق مالويا Maloja-Pass ويوليرJulier ، كانت ممكنة للبعثة لأنها تخترق منطقة بإدارة القس فون كور Bischof von Chur ، وتم لهم ذلك رغم وجود مشكلات بسبب وعورة المنطقة.
ما تبقى من الرحلة إلى آخن لم تكن تنطوي على مشكلات. ففي تلك العصور المبكرة لم تكن هناك سوى القليل من الطرق الصالحة، ولكن الرحلة تواصلت إما بمحاذاة بحيرة جنيف، أو عبر آفنشس، والمحطة القادمة كانت لانجرس، ثم ابتدأت الخيارات الكثيرة عبر تول، ميتز، وترير، أو خيار سلوك طريق عبر مدين القساوسة المهمة رايمز، ولكنهم تركوا طريق ميتز وترير واختاروا طريقا جانبياً عبر أردن وأيفل، بطريق مباشر إلى مدينة كولن Köln ، واعتبارا من تلك المرحلة كان قد لأصبح هيناً الوصول إلى آخن.
(الصورة: الساعة المائية التي أهداها الخليفة الرشيد للملك كارل)
(الصورة: هدايا الرشيد في آخن بلاط الملك كارل)