السوريون النشامى يصنعون تاريخاً جديداً للأمة

د. أبو بكر الشامي

قال تعالى في كتابه الكريم : بسم الله الرحمن الرحيم (( أحسبَ الناسُ أن يُتركوا أن يقولوا آمنّا ، وهم لا يُفتنون ، ولقد فتنّا الذين من قبلهم ، فليعلمنَّ اللهُ الذين صدقوا وليعلمنّ الكاذبين ، أم حسبَ الذين يعملونَ السيئاتِ أن يسبقونا ، سـاءَ ما يحكمون ، من كانَ يرجو لقاء اللهِ فإنَّ أجلَ اللهِ لآتٍ وهو السميع العليم ، ومن جاهدَ فإنما يجاهدُ لنفسه ، إنّ الله لغنيٌّ عن العالمين )) العنكبوت (1-6 ) صدق الله العظيم  ..

هذه الآيات الكريمات ، تنزّلت على قلب رسول الله ( ص ) قبل أكثر من أربعة عشر قرناً ، لتواسي المسلمين وهم يتعرّضون لأبشع أنواع الابتلاء والفتنة على أيدي مشركي مكة ومن حالفهم من العرب ..

ولعل من أروع دلالات عظمة هذا القرآن وإعجازه ، أن تنظر إلى نصوصه وآياته فتجدها حيّة كأنما تنزلت الليلة لتخاطب الصابرين المحتسبين من أبناء شامنا الجريحة  فتقول لهم : يا أهل الشام النجباء ، إن الإيمان ليس كلمة تقال باللسان ، إنما هو حقيقة ذات تكاليف ؛ وأمانة ذات أعباء ؛ وجهاد يحتاج إلى صبر، وجهد يحتاج إلى احتمال.!!!

فلا يكفي أن يقول الناس : آمنا ، ولن يتركوا لهذه الدعوى ، حتى يتعرضوا للفتنة فيثبتوا عليها ويخرجوا منها صافية عناصرهم ، خالصة قلوبهم ، كما تفتن النارُ الذهبَ لتفصل بينه وبين العناصر الرخيصة العالقة به ..!

إن الإيمان أمانة الله في الأرض ، لا يحملها إلا من كانوا أهلاً لها ، وفيهم على حملها قدرة ، وفي قلوبهم تجرد لها وإخلاص ، وإلا الذين يؤثرونها على الراحة والدعة ، وعلى الأمن والسلامة ، وعلى المتاع والإغراء ، وإنها لأمانة الخلافة في الأرض ، وقيادة الناس إلى طريق الله ، وتحقيق كلمته في عالم الحياة .

فهي أمانة كريمة ؛ وهي أمانة ثقيلة ؛ وهي من أمر الله ، يضطلع بها الناس ؛

ومن ثم تحتاج إلى طراز خاص من المؤمنين أمثالكم ، يكونون قادرين على تحمل الفتنة ، والصبر على الابتلاء ، حتى تحقيق الأهداف الغالية في العزّة والكرامة والتحرر .

 ومن الفتنة أيها الأبرار ، أن يتعرض المؤمن للأذى من الباطل وأهله ؛ ثم لا يجد النصير الذي يسانده ويدفع عنه ، ولا يملك النصرة لنفسه ولا المنعة ؛ ولا يجد القوة الكافية التي يواجه بها الطغيان ، وهذه هي الصورة المعهودة للفتنة ، ولكنها ليست أعنف صور الفتنة .. !

فهناك فتن كثيرة في صور شتى ، ربما كانت أمر وأدهى .!!!

منها فتنة بعض الضعفاء من الأهل والأحباب والأصدقاء والجيران ، الذين يخشى المتظاهر منكم عليهم أن يصيبهم الأذى بسببه ، وهو لا يملك عنهم دفعا ، وقد يهتفون به ليسالم أو ليستسلم ؛ وينادونه باسم الحب والقرابة ، واتقاء الله في الرحم التي يعرضها للأذى أو الهلاك ، أو باسم الواقعيّة والعقلانية والموضوعية ، التي لا تعني عندهم غير الانبطاح والاستسلام …!!!

 وهناك فتنة إقبال الدنيا على الظالمين والمنافقين ، ورؤية الناس لهم ناجحين مرموقين ، تهتف لهم الدنيا ، وتصفق لهم الجماهير ، وتتحطم في طريقهم العوائق،  وتصاغ لهم الأمجاد ، وتصفو لهم الحياة ، بينما المؤمن الشريف النزيه مهمل منكر لا يحس به أحد ، ولا يحامي عنه أحد ، ولا يشعر بقيمة الحق الذي معه إلا القليلون من أمثاله ، الذين لا يملكون من أمر الحياة شيئا …. !!!

وهنالك فتنة الغربة بالمبدأ ، والاستيحاش بالعقيدة ، حين ينظر المؤمن منكم فيرى كل ما حوله ، وكل من حوله غارقا في تيار الضلالة ؛ وهو وحده موحش غريب طريد .

 وهناك فتنة من نوع آخر قد نراها بارزة في هذه الأيام ، وهي : أن يجد المؤمن أمماً ودولاً غارقةً في الرذيلة ، ضالعةً في الشرّ ، ومع ذلك فقد فتحت عليها أبواب الدنيا على مصاريعها ، وهذا في منظور الله هو الاستدراج الذي يغفل عنه كثير من الناس …!

ثم ، هنالك الفتنة الكبرى ، أكبر من هذا كله وأعنف ، إنها فتنة النفس والشهوة، وجاذبية الأرض ، وثقلة اللحم والدم ، والرغبة في المتاع والسلطان ، أو في الدعة والاطمئنان ، وصعوبة الخروج للتظاهر ، والمشاركة في الثورة ، وتحمل التضحيات والاستقامة على صراط الإيمان ، والاستواء على مرتقاه ...

مع المعوقات والمثبطات في أعماق النفس ، وفي ملابسات الحياة ، وفي منطق البيئة، وفي تصورات أهل الزمان والمكان ... !!!

فإذا طال الأمد ، وأبطأ نصر الله ، كانت الفتنة أشد وأقسى ، وكان الابتلاء أشد وأعنف ، ولا يثبت عند ذلك إلا من عصم الله ، وهؤلاء هم الذين يحققون في أنفسهم حقيقة الإيمان ، ويؤتمنون على تلك الأمانة الكبرى ، أمانة السماء في الأرض ، وأمانة الله في ضمير الإنسان ، ثمّ ، أمانة النصر والحريّة والتمكين …

فأما انتصار الإيمان والحق في النهاية فأمر تكفل به وعد الله ، وما يشك مؤمن في وعد الله ، فإن أبطأ فلحكمة مقدرة ، فيها الخير للإيمان وأهله ، وليس أحد بأغير على الحق وأهله من الله ، وحسب المؤمنين الذين تصيبهم الفتنة ، ويقع عليهم البلاء ، أن يكونوا هم المختارين من الله ، ليكونوا أمناء على حق الله .

 وأما الذين يفتنون المؤمنين ، ويعملون السيئات ، فما هم بمفلتين من عذاب الله ، ولا ناجين مهما انتفخ باطلهم ، وانتفش طغيانهم ، وبدا عليه الانتصار والفلاح :

(( أم حسب الذين يعملون السيئات أن يسبقونا ؟ ساء ما يحكمون ..! )) 

فلا يحسبن ظالمٌ أنه مفلت من قبضة الله ، ومن يحسب هذا فقد ساء حكمه ، وفسد تقديره ، واختل تصوره . فإن الله الذي جعل الابتلاء سنّةً ليمتحن بها إيمان المؤمنين ، ويميز بين الصادقين والكاذبين ؛ هو الذي جعل أخذ الظالمين سنّةً كذلك  لا تتبدل ولا تتخلف ( إنّ الله يملي للظالم ، حتى إذا أخذه لم يفلته ) .

فلتطمئنّوا أيها المؤمنون السوريون الصابرون  ، الذين تتعرّضون على يد العصابات الأسديّة الكافرة الفاجرة إلى أشدّ أنواع الابتلاء والفتنة ، بسبب إيمانكم وشهامتكم ، وعزّتكم ، ورفضكم للظلم والعبوديّة ، وعشقكم للكرامة والحريّة ... والذين تنتظرون فرج الله ، وترجون نصره وتأييده  ، بعد أن خذلكم القريب والبعيد.. لتطمئنوا إلى النتيجة الحتمية في ميزان الله ، وهي نصر السوريين المؤمنين الصادقين ، وأخذ الأسديين الظالمين المستكبرين ، بشرط أن تؤدوا أنتم ما عليكم من واجب الثورة ، والنُّصرة ، والوحدة الوطنيّة ، والخروج للتظاهر ، والتكافل فيما بينكم ، والتعاون ، والبذل ، والجهاد ، والاستشهاد .

ثم تتركوا النتيجة النهائية إلى الله ...

بسم الله الرحمن الرحيم (( من كان يرجو لقاء الله فإن أجل الله لآت ، وهو السميع العليم ، ومن جاهد فإنما يجاهد لنفسه ، إنّ الله لغني عن العالمين )) ..

ومن أوفى بعهده من الله .!؟ 

(( وكان حقّاً علينا نصر المؤمنين )) صدق الله العظيم