مع الغرباء في ساحة الوعي
عبد العزيز كحيل
إذا كان للإسلام غربة فإن للجيل أيضا غربتَه ، والغرباء هنا وهناك يتميّزن بالوعي الكامل الذي يُثمر العطاء والبذل والثبات في أجواء مشحونة بالانسحاب والتقوقع والعجز عن الفعل ، والغربة تشير إلى القلّة الصلبة التي تعاني الوحشة وسط كثرة غثائية ، وهي التي يتنزّل على يديها الخير ويتحقّق النصر بتوفيق من الله بعد جولات من الصراع مع الباطل المتبجّح وما يستصحبه من هوان وذلّة ، هي حالة نفسية وشعورية يلتئم فيها الإيمان العميق بالبصيرة والوعي لإثمار عمل صالح دؤوب متأنٍّ يجمع الربانيّين والربانيّات من أبناء الاسلام الذين لم يغمرهم الاحباط فتمسّكوا بالمبدأ في زمن الردّة وأمسكوا بأداة الانجاز في زمن الانسحاب ، فغدوا لا تضرّهم قلة ولا تغرّهم كثرة ، هم القابضون على الجمر ، يسبحون بجهد جهيد ضدّ تيار الشبهات والشهوات والتحديات الجارف ، من يخالفهم أكثر ممّن يؤيّدهم ، هم الفرّارون بدينهم ، فرارًا إيجابيا لأنهم مع الناس بأجسامهم ومع الله بقلوبهم ، يستعلون على الواقع الفاسد بمشاعرهم وهم مع المجتمع الموّار بالأحداث والتقلّبات بتفاعلهم ، يَصلحون حين يَفسدُ الناس ويُصلحون مهما أفسد الآخرون ، رجاؤهم أن ينخرطوا بفضل الله في الطائفة المنصورة والفرقة الناجية والقلّة المؤيَّدة ، لا يتميّزون عن المجتمع بأشكال ولا مظاهر ولا استكبار ولا غرور ولكن بالدعوة إلى الله سرّا وجهرة ، بالليل والنهار ، مستغلّين جميع الوسائل المعاصرة للاتصال والتبليغ والحوار ، يذكّرون الناسي ويوقظون الغافل ويتصدّون بكلّ حزم وقوّة وتصميم للعلمانية المتغطرسة وما تبثّه من غزو ثقافي وإباحية و إفساد للغة والذوق والحياة ، كما يتصدّون للتطرف وأخلاق السلبية والكسل بالعمل الميداني الصامت المتواصل ، الفاعلية هي ميزتهم الأكبر إذا تمادى الناس في العجز والرداءة .
ويستطيع كلّ مسلم أن يلتحق بركب الغرباء الأكياس وينخرط في موكبهم المبارك إذا وعى خطورة اللحظة الحاضرة واستشعر ضرورة بذل أقصى ما تملك النفوس وحشد كل الطاقات الخيّرة للنهوض من الكبوة ومواجهة المستقبل الملغّم بتفكيك مختلف الألغام ودرء المفاسد وإعادة الأمة شيئا فشيئا إلى سكّة الوجود الفاعل ، وهذه مهمّة لا تقدر عليها إلاّ النخبة المؤمنة الربانية ، وهي تشمل – على سبيل المثال - أصنافا من الناس ، مثل :
- صاحب المنصب السياسي او الإداري - ومعه كلّ موظف ومسؤول – يؤدي عملة بأمانة ، يخدم الصالح العام ويجعل مرتبه حلالا ، لا يختلس الأموال العامة رغم انتشار الاختلاس وغياب المتابعة والعقاب ، وليست له علاقة بأيّ شكل من أشكال الرشوة رغم أنها أصبحت تعاملا علنيا مكشوفا ، لأنه يشعر بعين الله تراقبه ، وقد نذر نفسه لدينه وأمّته ليكون قدوة صالحة تنفع – بإذن الله – أكثر من الدروس والمواعظ.
- الطالب الذي يجتهد في تحصيل العلم ويعتمد على قدراته وينمّي مواهبه فلا يغشّ ولا يعوّل على شفاعة لدى الأساتذة ، رغم فشوّ هذه الأمراض على نطاق واسع ، لا يفعل ذلك بل يحاربه بسلوكه ليكون نموذجا حيّا لأقرانه.
- الشابّ الذي نشأ في عبادة الله ، يعدّ نفسه للمهمات الكبرى ثم لدخول الجنة ، يعبد الله في محراب الصلاة وقاعة الدرس ومخبر البحث ومكان العمل وساحة الرياضة ، يتمرّد بسلوكه القويم على جوّ الميوعة والسلبية المخيّم على أترابه ، وما فيه من سجائر ومخدرات وعلاقات محرّمة واتّباع لآخر صيحات الموضة ودوران مع الموسيقى الصاخبة واللعب الأبله.
- الفتاة المحجّبة الصابرة الثابتة التي تجد نفسها غريبة غربة صالح في ثمود بين أغلبية ساحقة من الفتيات والنساء اللائي نزعن اللباس الشرعي وتخلّين عن الستر والعفّة والحشمة ونافسن الكافرات في الثياب الضيقة الفاضحة المستفزّة للحياء ، تعاني الوحشة والانفراد لكنّها تبقى متمسّكة بلباسها الشرعي وأخلاقها الإيمانية لتكون حجّة وقدوة.
- القاضي الذي يدور مع الحق حيث دار لا يخاف في الله لومة لائم رغم تخلّي معظم زملائه عن رسالتهم وحيادهم ، يخاف الله فلا يستجيب لرغبة ولا يأبه لرهبة ، هو مع المظلوم حتى يردّ له حقّه وضدّ الظالم والمعتدي مهما كان هو او مركزه الاجتماعي او معارفه.
- إمام المسجد الذي يعلم انه ليس مجرّد موظف يخضع للتعليمات إنما هو داعية وواعظ ومصلح ، يجهر بكلمة الحق ويقول للمحسن أحسنت وللمسيء أسأت ، يزرع الأمل في النفوس ملتزما خطاب الاسلام المنزّل بعيدا عن الخطاب المبدّل والمحرّف الذي يسعى الحكّام إلى فرضه لتحجيم دور المسجد وتهميش الاسلام و" عَلْمَنَته ".
- الجمعية التي تؤدي خدمات للمجتمع فتحتضن النشء ، تربّي وتعلّم وتساعد المحتاجين وتحتضن ذوي الحاجات وتعالج المرضى ، كلّ ذلك لوجه الله ، فتعطي أكثر ممّا تأخذ ، خلافا لأغلبية الجمعيات التي توجّهها السياسة فتلتهم الأموال الطائلة – الخاصة والعامة – من غير مقابل كما هو شأن معظم مكوّنات ما يسمى " المجتمع المدني" في ديارنا.
- الحركة الدعوية والتربوية الهادية الهادئة التي تعمل على استئناف الحياة الاسلامية وتتلقّى ضربات الأعداء والخصوم بصدر رحب ، تحتسب ذلك عند الله وتمضي في طريق الاصلاح والتغيير تبلّغ رسالات الله ولا تخشى أحدا سواه ، تردّ على إلقاء الحجر بأطايب الثمر، تتألم ولا تنهار ، تتضايق ولا تتخلّى عن المنهج الدعوي السلمي المعتدل ، إذا ضاق بها المكان هنا أزهر عملها هناك ، تُخرّج الدعاة والعبّاد والمصلحين والسياسيّين الأتقياء بنَفَس طويل وإخلاص تامّ رغم حملات التشويه وأنواع العدوان من طرف غلاة العلمانيّين والتغريبيّين والمتطرّفين .
هذه أمثلة من الغرباء الذين أشاد بهم الرسول صلى الله عليه وسلم في حديث غربة الاسلام ، وفَهِمَ الراسخون في علوم القرآن أنهم المشار إليهم في قول الله تعالى : " فلولا كان من القرون من قبلكم أولو بقية ينهون عن الفساد في الارض إلا قليلا ممن أنجينا منهم " – سورة هود 116.
إنّ الغرباء نخبة مؤمنة متميزة إيجابية فاعلة تضطلع بما تقاعست الكثرة عن القيام به من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أي التمكين للحق والخير ومناهضة الباطل والشرّ ، بذلك لا تنجو النخبة وحدها ولكنّ الأمة كلها.
ولا يشكّل الغرباء ناديا مغلقا ولا نخبة منعزلة بل هم كيان حيّ يفتح أبوابه لكلّ محبّ لدينه وأمته ، من شباب وفتيات وكبار وصغار، ممّن يتوافدون عند المغارم و الفزع ويتوارون عند المغانم والطمع ، يقدّمون التضحية على الاستمتاع ولا ينتظرون الثواب إلا من عند الله... ما أحوج الأمة إليهم في هذا الزمان.