خط الحديد الحجازي
مشروع أمة
علي إبراهيم
شهدت الدولة العثمانية عصوراً مزدهرة سادت فيها على نظيراتها وحكمت حوض البحر المتوسط بلا منازع حتى قال أحد المستشرقين بأن "البحر المتوسط أصبح بحيرة عثمانية"... وقد كانت في مرحلةٍ ما - وبلا أدنى ريب - واحدةً من أعظم الدول وأقواها، ولكن الضعف ما لبث أن نخر جسدها الممتد وبدأت بالضمور وراحت شمسها تأفل حتى أطلقت عليها الدول الأوروبية لقب "الرجل المريض" ، دولة لا تقدر الذود عن حماها والحفاظ على وحدة أراضيها.
هذا الواقع المؤلم لم بكن سائغاً لجميع أصحاب السطوة والسلطان في الدولة العليّة وما ارتضو الحالة التي وصلت إليها، وعلى رأسهم السلطان العظيم عبد الحميد الثاني رحمه الله الذي ترك بصمات واضحة في سبيل الحفاظ على الدولة العثمانية وعلى كيانها ووحدتها إضافةً لمجابهة أطماع الدول الغربية التي كانت تلهث لقضم ما تسطيع من أراضي الدولة المترامية الأطراف.
عمل السلطان عبد الحميد الثاني من خلال رؤية واضحة لهدف جليل، ألا وهو إعادة المجد والتمكين لهذه الدولة العريقة والحفاظ على كيانها قدر المستطاع..
وقد قامت سياسة السلطان عبر إعادة جذب انتباه جموع المسلمين من كان من رعايا الدولة أو من كان خارجها، حول فكرة الوحدة التي تجمع المسلمين وإعادة هيبة الخلافة الإسلامية وكونها أعظم سلطة عند المسلمين، وما تمثل من آثار روحية وعملية واقعية في ميادين الحكم والسياسة والعلاقات والمرجعية، وإعادة التفاف قلوب المؤمنين حول شخص السلطان بصفته خليفة المسلمين الراعي لشؤونهم وقضاياهم...
هذه السياسة لم تكن مجردة عن التطبيق بل قام السلطان بالكثير من الخطوات على أرض الواقع لجعلها أمرا حقيقياً يمكن لمس آثاره ونتائجه، عبر مشروعه الأجلّ "الجامعة الإسلامية".
عمل السلطان عبد الحميد بجهد دؤوب في سبيل تحقيقها وجعلها أمرا فاعلاً، لن نخوض كثيراً في الأساليب التي تبعها لتحقيق هذه الوحدة التي لا تتمحور إلا على الإسلام ودعوته بل سنتكلم عن أحد المشروعات التي قام به السلطان خدمة لهذه الفكرة.
يمكننا أن نقول بأن الحج هو أعظم اجتماع للمسلمين منذ أن فرضت هذه الشعيرة الجامعة، ونتيجة للبعد الجغرافي بين البلاد العثمانية طرح السلطان إقامة مشروع ضخم بكل مقاييس تلك الفترة على صعيد التنفيذ والتمويل والمساحات الشاسعة التي سيعمل عليها، إضافةً للبيئات الصعبة في مناطق صحراوية مقفرة، مشروعٌ عالمي بجهود إسلامية خالصة، مشروع "خط الحديد الحجازي".
كان طريق الحج الذي ينطلق من دمشق وصولاً للمدينة المنورة يأخذ أكثر من ٤٠ يوماً سيراً عبر القوافل، وما يرافق ذلك من أخطار كامنة في صحاري الحجاز، فجاء الخط ليقلل هذا الوقت ويريح الحجيج بطريقة ميسرة وتخفف الجهد المبذول قدر الإمكان، هذا من جهة ومن جهة أخرى يشكل الخط طريقاً مهماً لإمداد القوات العثمانية في المدن المقدسة بالمؤن والجنود حال الحاجة إليها وبأسرع طرق ممكنة، تم تشكيل لجنتان للإشراف على تنفيذ المشروع ومتابعة مراحل تنفيذه، الأولى برئاسة "عزت باشا العابد" و مقرها اسطنبول عاصمة الدولة والأخرى للتنفيذ و مقرها دمشق برئاسة والي الشام.
واجه تنفيذ الخط العديد من المصاعب، أولها التمويل حيث قدرت تكلفة المشروع بأكثر من ٤ ملايين ليرة عثمانية ذهبية، ولم تكن الخزينة العثمانية قادرة على تمويله فقد كانت تعاني من نقص كبير في الأموال إصافةً للديون الكبيرة التي تثقل كاهل الدولة، وقد أراد السلطان عبد الحميد عدم اقتراض أي من الأموال من الدول الأروروبية وجعل تمويل المشروع إسلامياً بحتاً، فبدأ السلطان بنفسه وتبرع من ماله الخاص بأكثر من 320 ألف ليرة، كما وجه نداءً للأمة عبر سكرتيره "عزت باشا العابد" للتبرع للمشروع؛ ولقي هذا النداء استجابة منقطعة النظير من المسلمين في العالم، وجاءت الأموال من سائر الأقطار الإسلامية حتى من مسلمي الهند الذي كانوا يعانون الأمرين من الاستخراب البريطاني.
ولدعم المشروع أصدرت الدولة العثمانية طوابع بريدية خاصة به، كما تم اقتطاع 10% من رواتب موظفي الدولة لصالح سكة الحديد، وجمعت جلود الأضاحي في كل أنحاء الدولة وبيعت وحولت أثمانها إلى ميزانية الخط، وبعد حل المعضلة المالية واجه المشروع نقص القوة العاملة فلا يوجد في القبائل عادة من يعرف مثل هذه الأعمال فحولت الدولة أكثر من ستة آلاف جندي عثماني للعمل في بناء هذا المشروع الحلم، عملوا تحت إشراف أكثر من ٢٠٠ مهندس في مختلف مجالات البناء والعمارة.
ثالث المشاكل كان نقص المياه الكبير وحاجات العمال بداية ثم المسافرين فيما بعد، فحفرت الآبار على طول السكة وسيّرت خزانات المياه على الأجزاء المنحزة منها لتزويد العمال بحاجاتهم اليومية من المياه.
ورابع هذه المشاكل السيول التي تحدث في الصحاري جراء تساقط الشديد للأمطار في فصل الشتاء، فابتكر المهندسون سلسلة من قنوات التصريف لمياه السيول مما أمّن الحماية للسكة والجدير بالذكر بأن بعضها يعمل حتى يومنا هذا!!...
تتبّع الخط الحجازي بشكل عام الطرق القديمة التي كانت تسلكها قوافل الحجيح، وقد بدأ العمل في إنشاء الخط في شهر أيلول من عام 1900 م وبما أن السكة تمر بأودية كثيرة تم بناء حوالي 2000 جسر من الحجر المنحوت، كما تم استحداث محطة عند كل 20 كلم وذلك لحراسة السكة وتوفير بئر أو خزان لحفظ المياه.
وصل أول قطار إلى المدينة المنورة في 23 آب 1908 م، ثم أقيم الاحتفال الرسمي لافتتاح الخط الحديدي بعد ذلك بأسبوع.
ومن الملاحظات المهمة أن تكاليف بناء الخط الحجازي من أقل تكاليف خطوط السكك الحديدية في الدولة العثمانية على الإطلاق، رغم المسافة الكبيرة التي تغطيها و المرافئ المتعددة التي أقيمت خدمة للحجيج من استراحات ومحطات،
ومن المميزات أيضاً الوتيرة العالية في العمل فقد وصل متوسط معدل المسافة المنجزة سنوياً أكثر من 180 كيلومتر و هو رقم مهول بناء على طرق العمل في هذه الحقبة.
قدّم الخط الحجازي خدمات مميزة لحجاج بيت الله الحرام فقد أصبح القطار يقطع المسافة من دمشق إلى المدينة المنورة في خمسة أيام فقط بدلاً من أربعين يوماً مع العلم أن الوقت الذي كان يستغرقه القطار هو 172 ساعة فقط والوقت الباقي تمضي في محطات الاستراحة و تغيير القاطرات.
لم يعمر هذا المشروع كثيرا فظل بعمل كما خطط له حتى عام ١٩١٧ م وامتداد الحرب العالمية الأولى إلى تلك المناطق، فخربه العرب بأيديهم بإشارة بريطانية ماكرة، فقد كان له دور كبير في تقوية وجود العثمانيين في الحجاز ودعم قواتهم المتواجدة فيها، فقام الجهلة بنسف أماكن كثيرة من الخط وأصبح خرابا لا يستخدم أو يعمر، وضيعنا بأيدينا أهم وسيلة لربط بلاد الشام بالديار المقدسة، ولم تستطع كل المحاولات فيما بعد إحياء الخط الحجازي من جديد وهو على حاله حتى يومنا هذا.
لقد كان الخط الحجازي نموذجاً للإرادة الإسلامية التي تستطيع تحقيق الكثير والتغلب على الصعاب والمشاق في سبيل تحقيق الأهداف الكبرى للأمة، وبأن الحفاظ على المكتسبات لا يكون إلا بوعي وفهم كبيرين فالمعول الذي يهدم الأمة من الداخل أشد وأقسى ألف مرة من ذلك الذي يعمل من خارجها، فالبلاء فينا وقد أظهر التاريخ عمالة من برّز نفسه بأنه قائد وخليفة للمسلمين وخفايا مراسلاته الشائنة مع اللورد الإنكليزي مكماهون.
لم تُظلم شخصيّة كما ظلم السطان عبد الحميد رحمه الله فقد قرّب العلماء والدعاة وجعل همه الأعظم إعادة الأمة الإسلامية للريادة من جديد، ولكن أعداءنا شوهوا صورته واختذلوا أعماله وقدموه لنا بصورة قميئة شائنة لا تعبر حقيقة عن هذا الرجل العملاق في زمن الأقزام وأشباه الرجال، ومع اعترافنا بأنه - أي عبد الحميد - ليس كاملاً وأن بشر يخطئ ويصيب ولكنه يظلّ شامة عزّ في تاريخنا الحديث ومصدر فخر لجيل يقرأ التاريخ من جديد بأفهامً واعية وأفئدة صادقة وإرادة للعمل والتفكر والتغيير، لنصل للوحدة الإسلامية ونئد كل الدعوات التي فتت كياننا وبددت طاقاتنا وأحالتنا أمةً ممزقةً...