جهاد المسلمين في البحر

وامتحان البحرية الأمريكية

علي إبراهيم

[email protected]

"حتى تحول البحر المتوسط بحيرة إسلامية" عبارة تمثل حالة وقعت في كثير من مراحل تاريخنا الحافل بالأمجاد والبطولات، ومع أن المسلمين الأوائل لم يكن لهم حظ من البحر، بل منع سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه معاوية رضي الله عنه من مخر عبابه مجاهداً فاتحاً شاقاً على المسلمين الخوض في تجربة جديدة لا يمكلون أدواتها ومقوماتها، ولكنهم ما إن امتلكوا هذه الأدوات حتى حققوا انتصارات هائلة فحموا سواحلهم المترامية الشاسعة،  وفتحوا جزر المتوسط "قبرص وكريت وصقلية وغيرها" بقيادة أعلام الجهاد في البحر أمثال عبد الله بن قيس الحارثي وسفيان بن عوف (ت 53 هـ)  وجنادة بن أمية الأزدي (ت 67 هـ) رضي الله عنهم من الصحابة، و العالم الفقيه أسد بن الفرات رحمه الله (ت 213 هـ) وغيرهم الكثير، ماكثين في هذه الجزر فترات متفاوتة، تاركين فيها آثار حضارية وإنسانية وعمرانية باقية حتى يومنا هذا.

هذه القوة البحرية شكلت ذراعاً قوياً للدولة الإسلامية، ففي عهد الدولة الأموية على سبيل المثال بلغ عدد السفن الإسلامية أكثر من 1800 سفينة مقسمة على خمسة أساطيل يتمركز كل منهم في مدينة بحرية إسلامية كطرابلس والاسكندرية وتونس، وقد ارتبطت حالة البحرية الإسلامية ضعفاً وقوة بحالة الدول الإسلامية المتعاقبة عبر مراحل تاريخنا المشرق، مع الاحتفاظ بالتفوق كسمة عامة.

ومع سطوع نجم الدولة العثمانية وتحولها لقوة فاعلة على مسرح الأحداث مؤثرة على مجرياتها، أولى السلاطين العثمانيين جانب البحار اهتماماً بالغاً وأضحت البحرية العثمانية واحدة من أقوى الأساطيل في العالم إن لم يكن أقواها لأكثر من أربعة قرون متتالية.

حفظ لنا التاريخ اثنين من أكثر قادة الأساطيل العثمانية فطنةً وذكاء ويمكن اعتبارهم أبرز قادة الحروب البحرية في العالم، وهما الأخوين عروج (ت 924 هـ) وخير الدين بربروسا (ت 953ه)  رحمهما الله اللذين يعدّا بحق نوابغ في العلوم العسكرية البحرية، لقد استطاع الأخوين تثبيت أقدام الدولة العثمانية في الشمال الافريقي وطرد الإسبان منه ومواجهة الأطماع البرتغالية كذلك، وجعل الجزائر قاعدة انطلاق للعمليات الجهادية البحرية، ثم تولى خير الدين قيادة الأسطول العثماني وقاده في سلسلة انتصارات أذاق فيها الصليبيين مرارة الهزيمة ومن اللافت تحوّل مدينة تولون الفرنسية قاعدة أمامية للبحرية العثمانية لأكثر من ستة أشهر.

بالتزامن مع تلك الحقبة كانت آخر حبات العقد الأندلسي قد ضاعت وسلبت من أيدي المسلمين، وتعرض بعيدها المسملون في الأندلس لواحدة من أبشع جرائم الإبادة العنصرية وأكثرها وحشية وهمجية على مدار التاريخ، فسكن الكثير من المهجّرين والهاربين بدينهم من الأندلس على سواحل المغرب العربي، وكانت المأساة الأندلسية رافعة للعمليات الجهادية التي استهدفت سواحل الأندلس (اسبانيا) إثخاناً بالعدو، ولرد بعض ما حاق بالمسلمين في تلك البلاد، كما استفاد المجاهدون من خبرات المهاجرين الأندلسيين في الملاحة.

هذه الهجمات الإسلامية أضحت رعباً للدول الأوروبية كونها اتخذت الضربات السريعة الخاطفة في هجماتها، لذا نجد الكثير من المصادر التاريخية تصفها بالـ "القرصنة" وهي لفظة ذات دلالة سلبية توهم القارئ خلو هذه الحملات من الهدف الجليل السامي، فهي في جزء كبير منها ردة فعل على الهجمات الصليبية الممنهجة من جهة و محاولة لمواجهة طموحات الصليبيين التوسعية في السواحل الإسلامية من جهة أخرى، كما تطمس هذه التسمية شدة وطأتها على الدول الأوروبية المطلة على البحر المتوسط وأثرها الرادع والحاسم.

على الرغم من تنامي القوى البحرية للدول الأوروبية في القرنين السابع عشر والثامن عشر وبناء أساطيل حديثة وضخمة كانكلترا وفرنسا، ظلّت الهجمات الإسلامية البحرية ترعب أوروبا وتجبرها على الإذعان لمطالب المجاهدين اللذين اتخذوا من مدن الجزائر ووهران قواعد انطلاق لهم منذ عهد الأخوين بربروسا.

هذه المقدمات ما هي إلا توطئة لندخل مع القراء الأعزاء في مشهدية رائعة لواحدة من مواطن العزة والمجد، حادثة تاريخية تحمل الكثير من المضامين من الجدير بنا أن نتوقف عندها لأنها تعتبر خاتمة الأعمال العظيمة للبحرية الإسلامية في البحر المتوسط.

في أواخر القرن الثامن عشر وبعيد الاستقلال الأمريكي عام  (1776 م)  عن التاج البريطاني، أخذت السفن الأمريكية ترفع علمها الخاص خلال رحلاتها البحرية، حصل اللقاء الأول بين هذه السفن والبحرية الجزائرية عندما اصطدمت إحدى السفن الأمريكية بالقوات البحرية الجزائرية في صيف عام (1785م)  فصادروا السفينة لأنها لم تأخذ تصريحاً بالملاحة، وبعد عشر سنوات حدث اللقاء الثاني في شهر أيلول من عام (1795 م)  عندما قام المجاهدون بمصادرة أسطول أمريكي مكون من 11 سفينة.

أمام هذا الواقع وعدم قدرة الولايات المتحدة في تلك الفترة تعويض الخسارة وإعادة بناء أسطولها وما في ذلك من ضرر كبير على التجارة الخارجية والتي كانت تعد عصب الاقتصاد الأمريكي، وقوة الأسطول في الجزائر ووراءه البحرية العثمانية لم ترد الولايات المتحدة الدخول في حرب لا طاقة لها، وهي حرب حتى ذلك التاريخ لم تستطع الدول الأوروبية مجتمعة القيام بها، فعرضت الولايات المتحدة الصلح وعقدت على الأثر معاهدة وقعت في 21 صفر 1210 هـ / 5 أيلول 1795 م كتبت باللغتين التركية والانجليزية تعهدت خلالها أمريكا بدفع 642 ألف دولار ذهبي ومبلغ 12 ألف ليرة عثمانية ذهبية سنوياً، وفي مقابل ذلك يطلق سراح الأسرى الأمريكيين الموجودين في الجزائر ويعطى الحق للسفن التجارية الأمريكية الإبحار بحريّة في البحر المتوسط، وقع وصدّق على المعاهدة كل من جورج واشنطن رئيس الولايات المتحدة، وبكلر بك حسن باشا والي الجزائر من طرف الدولة العثمانية.

يمكننا تسجيل عدد من الملاحظات على هذه المعاهدة والظروف التي دعت إليها:

1-              القوة الكبيرة التي دفعت أميركا لعدم خوض نزاع مع الدولة العثمانية وذراعها البحري في الجزائر، ولا نقول أن الدولة العلية كانت تتمتع بمقومات الصحة ذاتها بل لقد دبّ الوهن في كثير من مفاصلها ولكنها  - ختى ذلك الوقت - كانت قادرة على مواجهة خصومها بشكلٍ أو بآخر.

2-              تعدّ هذه المعاهدة هي الوحيدة التي تنص على دفع الولايات المتحدة ضريبة لدولة أجنبية – كما تسميها-  وقد وقعت عليها الولايات المتحدة راضيةً مقرة بمحتواها.

3-              لم تكن المعاهدة مجرد فداء للسفن والأسرى الأمريكيين، فقد بقيت الولايات المتحدة تدفع هذه الضريبة مدة ٩ سنوات مسددةً آخر هذه الدفعات عام (1812 م).

4-              استخدام اللغة التركية العثمانية في كتابة المعاهدة دليل قاطع على إشراف الدولة العثمانية على الأعمال التي تقوم بها البحرية الجزائرية وأنها صاحبة السيادة على هذه البلاد، مع الاستقلال الذاتي الذي كانت تتمتع به الجزائر أو ما يعرف بـ "إيالة الجزائر" في تلك الحقبة.

هذه القوة الكبيرة للبحرية الجزائرية دفعت فرنسا وخلال مؤتمر فيينا المنعقد بين عامي 1814/ 1815 م لطرح موضوع "أيالة الجزائر" والخطر الكبير الذي باتت تشكله على التجارة الأوروبية وعلى ميزان القوى وأنها أضحت شوكة في خاصرة الدول الأوروبية فقد كانت الدولة العثمانية كثيراً ما توكل لها مهمة إخماد الثورات التي تحدث في بعض مناطق الساحل.

أعيد طرح الموضوع في مؤتمر "إكس لا شابيل" عام 1819 م فاتفق ممثلو الدول على تحطيم هذه الدولة حيث وافقت 30 دولة أوربية على فكرة القضاء على "دولة الجزائر" وأسندت المهمة إلى فرنسا وانكلترا، وتوفرت الظروف المناسبة للغزو عندما تمكنت بحرية البلدين من تدمير الأسطول الجزائري في معركة "نافارين" الشهيرة سنة 1827م، والتي أضعفت القوات الإسلامية في الجزائر ومهدت لاحتلال فرنسا لها بعد أعوام قليلة.

هذه الحادثة المغمورة في طيات التاريخ تقع في ذروة جهاد هذه الأمة في البحار، تعطينا صورة واضحة عن التفوق الذي لازمنا طيلة إثني عشر قرناً، في أحد ميادين الجهاد المتعددة.

مشاهد الريادة والعزة والمنعة، القوة والانتصار، التقدم والعبقرية، الفتح والتحرير... ليست أغنيات فارغة نرددها في كل مناسبة فتثير لدينا لواعج الذكريات والتحنان للأمجاد، وليست تبريرات عن واقعنا المأزوم المختنق بحالة مزرية من الهزيمة والانبطاح والتراجع، وليست مسكنات تعطينا جرعة من النسيان لنعود لحالة السبات الذي رافقنا دهراً من الزمن...

كلا...

بل هي دعوة صريحة للعودة من جديد، لنفض غبار سنين الضنك والتخلف والتشتت، للعمل الدؤوب في مختلف المجالات الإنسانية، ولننطلق مجدداً واضعين اللبنة الأولى في صرح حضارتنا الغرّاء نكمل ما شاده الأوائل بالرؤية ذاتها وعلى المنهج نفسه، فالعالم اليوم في أمسّ الحاجة للمسلمين، يفتقد القيادة الواعية التي تملتك البعد المعرفي والذوق الرفيع والأبعاد الروحية والإنسانية السامية...

لنعود كما كنا في مقدمة الأمم في كل الميادين حتى في لجج البحار وذرى الجبال...