كيف انهارت المجالس العسكرية في اليونان)
كيف انهارت المجالس العسكرية؟
(في اليونان)
محمد عبد الناصر
الأربعينيات من القرن العشرين.. تسير في مدينة الإسكندرية المصرية فتشعر بأنك تسير في أثينا! أعداد كبيرة من اليونانيين استوطنت هذه المدينة في تلك الفترة، فبدت وكأنها مقبلة على أن تكون مدينة "للخواجات" الذين تركوا بلدهم لسببٍ لا يعلمه كثير من المصريين.. السبب: كان الحرب الأهلية اليونانية وقتئذ.
كانت اليونان وقتها لا تزال دولة ملكية، يحكمها بول الأول الذي كان أرسطقراطيا بذخًا ويمينيا متطرفًا أثارت سياساته وممارساته الفاحشة وولاؤه الفاضح للولايات المتحدة الأمريكية وإنجلترا غضب الناشطين الشيوعين في بلاده، الذين ما لبثوا حتى تحاولوا إلى ميليشيات مسلحة مناهضة للملك وللملكية! دعمتها بعض الدول الشيوعية من جهة، ودعمت الولايات المتحدة وإنجلترا قوات الملك من جهة أخرى، وظل الملك بول سعيدًا بحكمه واستمرار سلطته، في حين تحولت بلاده إلى مسرح لتصارع القوى العظمى، وصارت ساحةً دموية بشعة طاردةً للسكان الذين هاجروا منها أفرادًا وجماعات!
كانت النتيجة الطبيعية لعمالة الملك بول واستهتاره بشعبه هي تنامي الغضب الجماهيري ضده، حتى بعد أن حسمت الولايات المتحدة وإنجلترا ما سُمي بالحرب الأهلية لصالح كتلتهما، وكان الغضب الشعبي على الملك مُمهِّدًا بعد ذلك لصعود العسكرتاريا.. عندما توفي بول وتولى ابنه الملك قسطنطين الثاني آخر ملوك اليونان الذي كان شابًا فتيًّا يذكرنا كثيرًا بالملك فاروق في مصر.
تجربة العسكرتاريا في اليونان قد تكون أوسع قليلا من هذا النموذج الذي نتحدث عنه الآن، ولكن هذا النموذج كان الأكثر تعبيرا عن فكرة العسكرتاريا النشطة ودورة حياتها التي تمر بمراحل عامة محددة تم حديثنا عنها فيما سبق مع التجربة الأرجنتينية.. وهي كذلك آخر سلسلة التحولات الديكتاتورية التي حدثت في اليونان قبل أن تتحول إلى الديمقراطية المحببة إلى نفوسنا الينايرية وإلى نفس كل إنسان تواق للحرية في كل مكان وكل حركة ثورية في العالم.
في عام 1967 حاصرت قوات من الجيش اليوناني –كانت تحارب إلى صف الملك بالأمس!- كُلاًّ من القصر الملكي ومكاتب الحكومة ومقرات الزعماء والوزراء ومبنى الإذاعة.. وحدث انقلاب عسكري.
تولى إدارة شؤون البلاد بعد ذلك مجلس عسكري يقوده الكولونيل جورج بابادوبولوس ويشاركه العميد ستيليانس باتاكوس والكولونيل نكولوس ماكريزوس، بدأ بابادوبولوس يحاول استمالة الشعب بحثًا عن شرعية لانقلابه هو ومجلسه العسكري، فأفرج عن بعض المعتقلين، وقلل الرقابة على الصحافة، وألغى مديونيات بعض الفلاحين التي تراكمت في ظل النظام الإقطاعي في الفترة الملكية.. ثم عزز المجلس العسكري شرعيته بعد ذلك عبر استفتاء شعبي شهير استفتى فيه الشعب على إنهاء الملكية وإعلان الجمهورية، فوافق نحو ثلثي اليونانيين الذين اكتشفوا بعد ذلك أن بابادوبولوس ما أجرى هذا الاستفتاء إلا لكي يحل محل الديكتاتور المخلوع بشحمه ولحمه، فأعلن دستورًا جديدا يعطي صلاحيات كبيرة لرئيس الحكومة، لكي يصير هو نفسه بعد ذلك رئيس الحكومة ووزير الدفاع، ثم وجد المسائل سهلة على ما يبدو فصار رئيس الجمهورية بالمرة!
امتد حكم المجلس العسكري في اليونان قرابة الثماني سنوات من 1967 حتى 1974، ارتكب العسكر خلالها معظم الجرائم السياسية التي يمكن أن تخطر على بال.. فقاموا بتقييد الحريات، ومنع أي نشاط سياسي، وأجروا اعتقالات واسعة جدا في صفوف النشطاء والمطالبين بالديمقراطية، وفرضوا رقابة شديدة على الصحف، وألغوا مئات المنظمات المدنية الخاصة التي لم تؤيّدهم!!
بدا المجلس العسكري في ذلك الوقت وكأنه تمكن من كل شيء، وأنه يمكنه أن يحكم اليونان إلى ما لا نهاية إذا أراد ذلك.. فكيف انهار إذن؟
كلمة السر في هذا الفصل كانت: قبرص، الجزيرة المتوسطية الغنية بمواردها التي تقطنها العرقيتان التركية واليونانية، مما يجعل منها مطمعًا من جانب كلا الدولتين، الشعور الطاغي بالغطرسة لدى جنرالات المجلس العسكري اليوناني نمّا لديهم الإحساس الخادع بالقوة، فارتكبوا أشد الحماقات بؤسًا في قبرص التي كانت ساحة نزاع قديمةً أصلا بين اليونان وتركيا، فكانت النكسة الكبرى عندما اجتاح الجيش التركي قبرص وألحق بنظيره اليوناني هزيمةً مدوية.
في الوقت نفسه وبالتزامن مع الهزيمة العسكرية كان الغضب قد وصل إلى مداه داخل الجيش اليوناني.. الذي كان حانقًا بشدة على الرئيس الجنرال الفاشل بابادوبولوس، فقامت مجموعة عسكرية بانقلاب ناجح على جنرالات مجلس بابادوبولوس العسكري وعينوا مكانه الفريق فيدون جيزكس رئيسًا مؤقتًا، ثم استدعى العسكريون بعد ذلك السياسي المحترف "قسطنطين كارمانليس" ليدير الحكومة بدلا منهم ويعودوا هم إلى ثكناتهم بعد انهيار تجربة الحكم العسكري وتفشي آثارها الكارثية.. فلا العسكريون نجحوا في العبور باليونان إلى بر الأمان بعدما أصابهم نهم السلطة والنفوذ، ولا حتى هم أفلحوا في مهمتهم العسكرية الأساسية..
فيما بعد صار كارمانليس أول رئيس منتخب لليونان التي تحولت إلى الديمقراطية..!
نتساءل في النهاية: ما الذي حدث للمشير بابادوبولوس؟! حُكِمَ عليه طبعًا بالإعدام بتهمة الخيانة العظمى عام 1975، وخُفِّف الحُكم إلى السجن المؤبد، حتى مات جورج بابادوبولس مسجونًا في سنة 1999.