قناص التحرير

أ.د. حلمي محمد القاعود

[email protected]

" في عينه.. في عينه ..جدع يا باشا ! " .

كان هذا هتاف عساكر الأمن المركزي للضابط الشاب الذي أطلق رصاصة مطاطية فدخلت في عين أحد المتظاهرين في  شارع محمد محمود باشا من جهة ميدان التحرير ، عقب مليونية 18 نوفمبر !

كان الضابط وهو برتبة ملازم أول ، واقفا في الشارع المذكور مسلحا ببندقية يستخدمها ضد المتظاهرين وهو يتقدم بضع خطوات للأمام ويطلق الرصاص أكثر من مرة في اتجاه المتظاهرين ويستدير للخلف، بينما يهنئه بعض زملائه على دقة التصويب .

وفي ميدان التحرير، كان دوي طلقات الشرطة لليوم الخامس على التوالي، وعلى إيقاعه يرفع المتظاهرون صورة لشخص يرجح أنه أحمد حرارة، البطل الجديد للثورة المصرية الذي دفع عددا من النشطاء إلى استخدام شبكة التواصل الاجتماعي (فيسبوك ) لإطلاق "الحملة المصرية لمواجهة بلطجية الأمن".

كان أحمد حرارة، وهو طبيب أسنان في الحادية والثلاثين من عمره، فقد إحدى عينيه في 28 يناير الماضي في أثناء الثورة التي انتهت بإسقاط النظام الفاسد البائد . وأدت طلقة خرطوش إلى نزع عينه الأخرى لدى مشاركته في التظاهرات يوم السبت الماضي 19/11/2011، وبات الآن يحمل ضمادتين الأولى فوق العين اليمنى مكتوب عليها "28 يناير" والأخرى فوق العين اليسرى مكتوب عليها "19 نوفمبر".

الحدث ليس بسيطا ولا هينا ، ولكنه كارثة مركبة . الضابط الشاب يرتكب جريمة مروعة ، وبدلا من حماية المتظاهرين بحكم وظيفته التي تقضي بتأمين الناس ، إذا به يتحول إلى مجرم يُفقد مواطنا مكلفا بحمايته إحدى عينيه ؛ ما يعني أن فلسفة وزارة الداخلية مازالت تمضي في طريقها المظلم الذي ورثته عن نظام الكونستبلات الإنجليز ، وهو أن الشعب عدو الشرطة ، وتجب هزيمته بوسائل القتل والتعذيب والقمع المتاحة ، وكان من المفترض أن يتعلم رجال الأمن في بلادنا من درس الثورة في 25 يناير 2011 ، يوم عيد الشرطة وما جرى فيه ، حين انتصر الشعب وأودع الجلادين والقتلة أقفاصا حديدية ليشاهدهم العالم وهم يخضعون لسيف العدالة ! ولكن يبدو أنهم لم يتعظوا بعد !

أما الجنود المساكين الذين هنأوا الباشا على تصويبه المحكم في عين المواطن البريء ، فما زالوا يتعاملون مع " الباشا" الصغير بمنطق العبيد الذين يجب أن يبتهجوا لأن سيدهم المدلل قد أحرز تفوقا في إجرامه وسلوكه المشين ضد مواطن قد يكون شقيقا لواحد منهم أو قريبا له ، ولكن منطق العبودية الذي ما زال سائدا في بعض الأجهزة أو معظمها إذا شئنا الدقة يجعل الجنود المساكين يتجاهلون قيمة الضحية ومدى انتسابه إليهم أو إلى الرابطة الإنسانية !

في الثورة المتجددة قام الأمن بتوجيه ضربات موجعة للشعب الغاضب ، واستخدم الرصاص المطاطي والغاز المسيل للدموع بكثافة وجرأة واستمرار وهمة لم تُعرف على مدى تسعة أشهر . لقد ترك البلطجية واللصوص والمفسدين في الأرض يسرحون ويمرحون ويرتعون وينهبون دون أن يقترب منهم ، مع أنه يعرفهم بالاسم ، ويستطيع – لو أراد – أن يجمعهم في نصف ساعة بدءا من أسوان إلى الإسكندرية ، ولكنه لم يفعل أبدا ، فقد أعلن استقالته منذ ثورة يناير، واكتفى بصرف مرتباته وامتيازاته واتهام الناقدين لمسلكه بأنهم يريدون إسقاط الدولة .

المفارقة أن الهمة التي أبداها الأمن وهو يضرب الشعب في التحرير ، دفعته إلى تقديم أسوأ النماذج البشرية المتوحشة ، وهي تتعامل مع جثث الشهداء ، حيث كان الجنود يلقون بها في قلب الزبالة ، أو يدوسون فوقها بدلا من حمايتها ونقلها إلى مثواها بما يليق بكرامة الإنسان الذي كرمه رب العباد ، وفضله على كثير ممن خلق تفضيلا !

هناك قناص آخر لا تقل جريمته عن جريمة هذا الضابط الشاب الذي فقأ عين المواطن البريء وتلقى التهنئة من جنوده العبيد ، هذا القناص هو المسئول غير المسئول الذي أشعل النار في الوطن كله بما يسمى وثيقة المبادئ فوق الدستورية أو المبادئ الحاكمة للدستور ، وطرحها في وقت حساس تستعد فيه البلاد لتخطو أولى خطواتها نحو الحرية الحقيقية بانتخاب مجلس تشريعي يقود الوطن إلى الاستقرار والبناء واستدراك ما خسرته الدولة على مدى عقود مضت اقتصاديا وسياسيا واجتماعيا .

المسئول الحقيقي هو الذي يفكر قبل  أن يخطو ، ويلجأ إلى التشاور والتفاهم قبل أن يعلن على الناس ما يريد أن يفعل ، ولكن صاحب الوثيقة لم يبال بأحد وطرح وثيقته من أجل هدف حزبي رخيص هو حرمان الأغلبية من التعبير عن رأيها ، وامتلاك مقدراتها والمشاركة في بناء مستقبلها . لقد أراد خدمة الأقليات الثقافية والأيديولوجية وبعض أجهزة الدولة على حساب بقية الأجهزة ، ومنحها وضعا استثنائيا يتيح لها أن تكون فوق الشعب وفوق الدستور ، ولم يكتف بذلك بل تحدث باستعلاء غير مقبول عن معارضي سلوكه ، وزعم أن وثيقته إلزامية ولن يتم تغيير شيء فيها ، ولم يعبأ بالملايين التي خرجت في العاصمة والمحافظات ترفض فعلته الشاذة ، المعاكسة لإرادة الشعب ، وفي الوقت نفسه سكت من يديرون البلاد عن المسألة ولم يحاولوا ردعه أو إيقافه أو شرح وجهة نظرهم على الأقل .

ثم كانت الطامة الكبرى بإخلاء ميدان التحرير من بضع عشرات من المعتصمين عنوة ، وبطريقة لا تعرف للتفاهم أو التفاوض طريقا ، مما أدى إلى مضاعفات كانت نتيجتها أكثر من أربعين قتيلا ، عدا مئات الجرحى والمصابين ، وأضحى الأمر يشبه من أراد التخلص من برغوث فأحرق اللحاف ، أو أحرق السرير كله ، ما جعل الموقف كله مريبا ومشكوكا في دوافعه ، وصار السؤال : لماذا لم يتركوا المعتصمين في حالهم ؟وماذا سيحدث لو أنهم بقوا أسبوعا أو عشرة أسابيع دون أن يعطلوا المرور أو مصالح الناس ؟

بدا الأمر حربا أهلية شبّت لسبب غير مفهوم ، ولا يعرف أحد متى تنتهي أو يتوقف نزيف الدم فيها ، ولم تُجْد المناشدات والبيانات والرجاءات أن يترفق أبناء الوطن ببعضهم ، وأن يتقوا الله في أنفسهم ، وأن ينظروا إلى الأمام كي يتغلبوا على الشقاق والخلاف ، ولكن الشاشات التلفزيونية تعرض صور الكر والفر ، وإطلاق الرصاص الحي والمطاطي والخرطوش وقنابل الغاز المسيل للدموع والغاز المحرم دوليا ، الذي يصيب المتظاهرين بالتشنج وهياج الأعصاب والرعشة ، لدرجة أن وصفه البعض بغاز الخردل ، والعجيب أن وزارة الداخلية تنفي أنها أطلقت رصاصا أو غازا محرما ، وكأن ما يجري أمام أعيننا مجرد مزحة يقوم بها بعض الممثلين على مسرح هزلي وليس في ميدان قتال حقيقي !

المسئول غير المسئول الذي أشعل النار في البلاد دون مسوغ ودون داع ، اعتمد على الإمبراطورية الإعلامية التي تقلب الحقائق وتدلس ، وتضع المسئولية في أعناق الأبرياء ، وتذيع كلاما رخيصا يتحدث عن مليونية "قلة الأدب " أو " جمعة قندهار " ، أو " جمعة الأتوبيسات " أو غير ذلك من تعبيرات يخترعها أنصار الديكتاتورية ، وخدام الاستبداد في كل زمان ومكان . إن الاعتماد على البروباجندا الدعائية لن يحقق للأقليات المعادية لإرادة الشعب أي نصر سياسي أو مكاسب سياسية  ، لأنهم معزولون عن الشارع ومتطلباته واحتياجاته ، وقانعون بالمماحكات الليلية على شاشات البرامج التلفزيونية وأعمدة الصحف السيارة ، في تسويغ أفكارهم الأنانية ، ورؤاهم التسلطية ، وتصوراتهم التي لا تعرف التسامح وقبول الأغلبية بمعتقداتها وأفكارها وطموحاتها .

لقد تسبب أنصار الديكتاتورية في إطالة أمد الفترة الانتقالية ، وسقوط المزيد من الشهداء والمصابين في ميادين الاحتجاج والتظاهر والاعتصام ، ثم إنهم دفعوا إلى كثير من الوقفات الفئوية ، وكان في إمكانهم وهم الذين يملكون السلطة والتنفيذ حل كثير من المشكلات ، وإقناع الناس في شفافية ووضوح بحقيقة ما يجري ، ولكن منهج الاستبداد هو منهجهم السائد الذي يتقنونه ، وترسخه الرغبة الأنانية في الاستحواذ والامتلاك وعدم الرضا بإرادة الشعب أو أغلبيته الساحقة .

لقد أحسن المجلس العسكري بالاعتذار عما جرى ، وحسبان الضحايا في التحرير والمحافظات شهداء ، وعلاج المصابين على نفقة الدولة ، وإجراء الانتخابات التشريعية في موعدها وتسليم السلطة إلى المدنيين في منتصف العام الجديد .

ولكن يبقى المطلب المهم وهو محاسبة وزارة الداخلية ،وضرورة تصفيتها من العناصر الشريرة التي ما زالت مصرّة على السير في طريق الظلام ، وإلغاء الجهاز الإرهابي الذي اكتفوا بتغيير اسمه ولم يتغير فعله ، أعني جهاز أمن الدولة ، فقد ثبت أنه لا يؤمن الدولة ولا يحميها بقدر ما يدمرها ويخربها .. وعلى أنصار الديكتاتورية والنظام الفاسد في كل المواقع أن يدركوا أن استمرارهم على الصورة السابقة على الثورة من المستحيلات مهما كانت إمكاناتهم وأعوانهم ، لأن الشعب مصمم على نيل حريته وكرامته ولو طال السفر !