الطز آخر الأسلحة السورية

محمد الشيبان

في عام 1986م وبعد هجوم الطيران الأميركي على طرابلس الغرب لم يقدر الرئيس الأميركي رونالد ريغان وفريق عمله ردة الفعل العنيفة من قبل العقيد الليبي الذي خرج في خطاب طويل ختمه بالقول طز في أميركا.

كانت تلك "الطز" كفيلة بإخراج الأسطول الأميركي من البحر المتوسط وإعادة تشكيل المشهد العالمي وميزان القوى وبرز القطب العالمي الثالث فيما عرف لاحقاً باسم الجماهيرية العربية الليبية الشعبية الاشتراكية العظمى.

لم تكن تلك الطز الليبية هي الأخيرة في قاموس نظام العقيد الراحل فقد أستخدمها نجل العقيد مرتين الأولى بعد سيطرة الثوار على طرابلس الغرب والثانية بعد سيطرة الثوار على سرت ومصرع العقيد الليبي ليصبح المجموع ثلاث طزات جمعت تكسيراً وتحطيماً.

وهذا السلاح الغير تقليدي أستخدمه أيضاً نظام الرئيس العراقي الأسبق ثلاث مرات الأولى انفجرت في وجه الرئيس الأميركي بوش الأب عام 1990م قبيل بدء حرب الخليج الثانية والأخرى صُفع بها وجه البوش الصغير الإبن في العام 2003م قبيل احتلال العراق والثالثة في عام 2005م خلال محاكمه نظام الرئيس العراقي المسقط وفيها جمع المهيب العراقي عائلة بوش في مزج سياسي فريد بقوله "طز على بوش وطزين على ابوه وبيريز ايضا".

بالأمس وبعد قرار تعليق عضوية سوريا في اجتماعات الجامعة العربية ومؤسساتها خرج مندوب سوريا يوسف الأحمد بأولى "طزات" النظام السوري وهذه أول المؤشرات على فقدان النظام لكل أوراقه بما فيها الدبلوماسية ولثلث قوة المناورة لديه وتبقت "طزتان" حتى يفقد ! النظام ما تبقى من حظوظ المناورة لديه.

وعندما تنحدر اللغة الدبلوماسية إلى الحضيض فأن ذلك مؤشر مهم على ارتباك النظام والفقدان التدريجي على قدرة المناورة ومقاومة الواقع بل وفقدان القدرة حتى للخضوع للأمر الواقع، فمثلاً الزعيم السوفييتي خروتشوف صاحب حادثة منصة الأمم المتحدة عام 1961م وعراب أعظم طز في التاريخ لم يكن أفضل حالاً من العقيد والمهيب اللذان انتهى بهما المطاف إلى نهاية مشابهة لمستوى اللغة الدبلوماسية التي أستخدامها أو عبثا بها، فبعد الحادثة الشهيرة بأقل من عام أضطر خورتشوف إلى التقهقر وسحب صواريخة البالستية من كوبا بعد أن أمهله الرئيس الأميركي كنيدي عشرة أيام لسحب كل أسلحته وطائراته وسفنه الحربية التي أستغرق وصولها إلى كوبا أشهر عدة وبعدها حصل خرتشوف بامتياز على لقب "نمر من ورق" والذي أطلقته عليه القيادة الشيوعية الصينية. وربما لن يكون مصير خرتشوف أفضل حالاً من طبيب العيون.

أن انفعال المندوب السوري لم يغير من واقع نفوذية القرار الذي أعتبره مجرد "إبراء ذمة"فعضوية الجامعة العربية ليست بتلك الأهمية التي قد يتصورها البعض وأن كانت الرمزية في الحالة السورية ذات مدلول مهم، فالعضوية المذكورة لا تمنح أي امتيازات سياسية أو اقتصادية لأي دولة في ظل غياب منظومة عربية سياسية واقتصادية حقيقية وفاعلة، والعقوبات الاقتصادية العربية على النظام السوري غير فاعلة. فالميزان التجاري يميل إلى الجانب السوري مع بعض الدول العربية، ودعوة الجيش العربي السوري المبطنة بالعصيان غير مجدية في جيش أعيد بناء عقيدته العسكرية ليصبح حامياً للزعيم وليس للوطن إلى غير ذلك من القرارات، أنما ما وراء القرار هو المهم والذي رفع فيه الغطاء العربي عن النظام السوري الذي أصبح وحيداً يواجه مصرعه بين يدي إيران بعد أن تم تدويل القضية رسمياً مع نهاية تلاوة البيان، برغم تعويل النظام السوري على الموقفين الصيني والروسي وهذا هو الرهان الخاسر فقد سبق أن تراجع خورتشوف بعد أن صرح بالدعم السياسي لكاسترو وكان يحتضنه في كل صورة تذكارية بل وهدد بالرد عسكرياً على أي أمة تعتدي على كوبا وهو ما كذّبه الواقع السياسي بعد نبذت كوبا سياسياً لمدة تفوق الستين عاماً تفتت خلالها الاتحاد السوفياتي وانتهت الحرب الباردة ونشأت قوى جديدة ! ونظريات اقتصادية جديدة وبعد أن توجهت روسيا والصين إلى الاقتصاد الرأسم الي وزاد حجم التبادل التجاري بينها وبين أميركا وازداد عدد الأثرياء الروس والصينيين بينما أخر عمود كهرباء وضع في هافانا كان من ميزانية الستينيات.

لهذا فمن الواجب السياسي معرفة أن ما لم يستطعه خورتشوف وهو الزعيم الأوحد للاتحاد السوفيتي لن يقدر عليه مدفيدف رئيس "ربع" الجمهورية الروسية على اعتبار أن رئيس الوزراء البرغماتي فلاديمير بوتن يحظى بثلاثة أرباع قوة النظام الروسي هذا سياسياً.

أما بلغة المصالح الاقتصادية فحجم التبادل التجاري بين دول الخليج العربي ومصر والمغرب والأردن من جهة وروسيا أو الصين من جهة أخرى منذ عام 1990م يفوق حجم العلاقة الاقتصادية بين سوريا والصين أو روسيا.

ثمة مؤشر أخر لم يقرأه النظام السوري بعد وهو أقدام روسيا قبل عام على الغاء صفقة صواريخ "S-300” مع حليفته إيران التي كانت تعول على الموقف الروسي كما هو تعويل النظام السوري الأن، وقد تسربت ان تلك الصفقة ذهبت إلى دولة خليجية كبرى ولكن بمنظومة ! صاروخية أكثر تقدماً وهي “S-400”، وباللغة الإستراتيجية فسوريا أرهقت روسيا وأصبحت علاقتها بها تشكل عائقاً لفكر بوتين الجديد المنفتح على أوربا التي الغاها وليد المعلم وأميركا والدول المؤثرة في الشرق الأوسط.

فمتى تتعلم القيادة السورية القراءة السياسية والدبلوماسية للواقع وتناور بغير ورقة الطز التي كان من المفترض أن لا يخرج بها مندوب سوريا بل كان بإمكانه أن يوكلها لبعض النواب اللبنانيين الذين كانوا سيكفونه عناء الشتم بينما يتفرغ هو وقيادته لقراءة المشهد مرة أخرى بفكر سياسي واقعي غير مكابر، فكر ينحني للعاصفة كما أنحنى النظام سابقاً في أحداث عدة ليس أخرها قصف مفاعل دير الزور – يذكرنا بقصف المفاعل العراقي – وقصف معسكر عين الصاحب وتسليم عبدالله أوجلان وقبل ذلك كله تقزيم قضية الجولان.

لم تتعلم القيادة السورية أن لغة المصالح هي التي تصنع التحالفات وليس العكس، لم تتعلم أن مصطلح "الثوابت" لا يجب أسقاطه على الواقع السياسي المتغير دوماً، لم تتعلم القيادة ا! لسورية أن البروباغندا الشعاراتية والقومية لا تعيش إلا لحظات تنتهي مع تصاعد دخان إحراق أول علم أميركي أو إسرائيلي أو بتحطيم صورة الرئيس الأميركي، لم تتعلم القيادة السورية أن تصدير الأزمات إلى الخارج ينجح بعض الوقت وليس كل الوقت، لم تتعلم القيادة السورية أن ترحيل وتهجير الاف المعارضين إلى الخارج منذ الستينيات خطأ سيؤدي إلى أنتاج عقليات بفكر تصعب السيطرة عليه كما هي السيطرة الفكرية والثقافية في الداخل، لم تتعلم القيادة السورية أن التاريخ علمنا أن قمع الشعب وإذلاله يراكم عبر السنين حنقاً شعبياً يولد على شكل ثورات غير منضبطة، لم تتعلم القيادة السورية أن خلافات واختلافات دول الخليج العربي لا يسمح المصير المشترك أن تأخذ منحى اللارجوع وأن التعويل على ذلك رهان خاسر، لم تتعلم القيادة السورية أن دعامتها السياسية وعمقها الاستراتيجي كانت مصر والسعودية وليست إيران وكان من الذكاء بمكان التوازن بين التحالف مع أيران وبين العلاقات مع مصر والسعودية حتى في أسوأ الظروف كما كان يفعل الرئيس الأب، لم تتعلم القيادة السورية أن كلمة "طز التركية" نتاج تاريخً مخز للسياسة العربية وخصوصاً السورية لم يأخذ بأبجديات السياسة ولم يتعلم النظام في دمشق البراغماتية الس! ياسية من حليفته إيران التي لم تتمنع في قصف إسرائيل صباحاً بخطب الخميني وتتفاوض معها مساءً على طاولة الكونترا.

لم تتعلم القيادة السورية طوال مرحلتها الفكرية والأخلاقية والسياسية والاقتصادية سوى مفردة "طز" فكان أن بقيت تدور في مدار هذه الكلمة بكل أبعادها.