الاستبداد والفتوى

أ.د. عبد الرحمن البر

أ.د. عبد الرحمن البر

أستاذ الحديث وعلومه بجامعة الأزهر

وعضو مكتب الإرشاد بجماعة الإخوان المسلمين

وعضو الإتحاد العالمي لعلماء المسلمين

«مَثَلُ السلطانِ الجائرِ مثلُ الشوكةِ في الرِّجْل، فصاحبُها تحت ألمٍ وقلقٍ، ويَتَدَاعَى لها سائرُ الجسد، ولا يزالُ صاحبُها يَرُومُ قَلْعَها، ويستعين بما في ميْسُوره من الآلات والمناقيش والإِبَر على إخراجِها، لأنها في غير موضعها الطبيعيِّ، ويوشك أن يُقْلَع بالأجرة».

هذا النص من كتاب (سِراج الملوك) لأبي بكر الطرطوشي (المتوفى سنة 520هـ)، وهو يعبِّرُ أبلغَ تعبيرٍ عن الموقفِ الحقيقيِّ للشعوبِ من الحاكمِ المستبدِ الجائر، فهي ترى وجودَه في مكانِه وجوداً غيرَ طبيعي، وتفكرُ في خلعِه بكلِّ طريقٍ، وتلتمس كل سبيل للتخلص من الآلام التي يسببها للأمة، حتى لو اضطرت إلى التضحية بأموالها أو إلى إجراء جراحة في سبيل التخلص من ظلمه وجبروته.

وفي مواجهة هذا الرفض الشعبي لهذا المستبد فإنه يلجأ لاستخدام كافة الوسائل التي يعتقد أنها تثبت ملكه، ومن أهم ما يحرص الطغاة عليه في دعم الاستبداد وتزييف وعي الشعوب محاولة إسباغ شرعية دينية على تصرفاتهم واستبدادهم، من خلال استخدام بعض المنسوبين إلى علوم الشريعة وتمكينهم من المناصب الدينية ليقدموا له ما يريد.

في ظلِّ الاستبدادِ يبرز تيارٌ سلطويٌ من أهلِ العلمِ ينتقي من النصوصِ والأدلةِ ما يلوي به عنق الشريعة؛ ليبرِّر تصرفاتِ هؤلاء الحكامِ المستبدِّين الضالَّةَ وأوضاعَهم المنحرفةَ، فيبررون جوْرَهم وقسوتَهم على الأمة برعاية المصالح الكبرى للأمة، ويبررون تفريطَهم وتخاذُلَهم أمام عدوِّهم بأنه من باب الحكمة والسياسة الشرعية، ويكون الصوت العالي للفتاوى التي تتناول حقوقَ الحاكم ووجوبَ السمع والطاعة، وتَحَمُّلَ الإمامِ الغشوم؛ خوفًا من فتنةٍ تدوم، وتُسْتَخْرَج النصوصُ التي تُكَرِّسُ الخنوعَ للذلِّ، وتبرِّرُ الخضوعَ للظلمة.

وتُغَيَّبُ -عن عمد- النصوص والوقائع التي تدعو إلى مواجهة الظلم، ونصح الظالم، وتُكَرِّس مواجهةَ السلطانِ الجائرِ بالحقِّ باعتبارهِ أعظمَ الجهاد، وتنهى عن الطاعة في غير المعروف أو الطاعة في معصية الله.

وفي ذات الوقت يصفون المعارضةَ السياسية للمستبد الغشوم بالخروج والبغي، وينعتون النصيحةَ الشرعية الواجبة لهم بالتمرد والإهانة للحاكم الشرعي، ويستحق المعارض الناصح الأمين في رأيهم الموتَ والإخراجَ من الأرض، بل ومن الإسلام إذا اقتضى الأمر، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

وفي الوقت الذي عدَّ فيه النبي صلى الله عليه وسلم مواجهة المستبد الجائر بكلمة الحق أعظم الجهاد، ويلقِّبُ من فعل ذلك فقتله الجائرُ بسيد الشهداء: «أَفْضَلُ الْجِهَادِ كَلِمَةُ حَقٍّ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ«  (أبو داود والترمذي) «سَيِّدُ الشُّهَدَاءِ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَرَجُلٌ قَامَ إلَى إمَامٍ جَائِرٍ فَأَمَرَهُ وَنَهَاهُ، فَقَتَلَهُ«  (الحاكم وصححه) أما سَدَنَة الاستبداد من أهل العلم فهم يُفْتُون بأنَّ مَنْ فَعَل ذلك خارجيٌّ يستحق القتل!

وبهذا تصبح مهمة المنتسبين إلى العلم الشرعي تبرير انحرافات المستبد وتصديقه، وترويج بضاعته الفاسدة الكاسدة على جمهور الأمة، فيتحولون من حيثُ يَدْرُونَ أوْ لا يَدْرُون إلى أدواتٍ بيد المستبدِّ، ويقدمون دليلاً زائفًا للماركسيين الذين يَدَّعُون زورًا وبهتانًا أن (الدين أفيون الشعوب).

وذلك ما حذَّر منه النبيُّ صلى الله عليه وسلم كَعْبَ بْنَ عُجْرَةَ رضي الله عنه حين قال له: «يَا كَعْبُ بن عُجْرَةَ، أُعِيذُكَ بِاللَّهِ مِنْ إِمَارَةِ السُّفَهَاءِ»، قال: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا إِمَارَةُ السُّفَهَاءِ؟ قَالَ: «أُمَرَاءُ يَكُونُونَ مِنْ بَعْدِي، فَمَنْ دَخَلَ عَلَيْهِمْ، فَصَدَّقَهُمْ بِكَذِبِهِمْ، وَأَعَانَهُمْ عَلَى ظُلْمِهِمْ، فَلَيْسَ مِنِّي، وَلَسْتُ مِنْهُ، وَلَنْ يَرِدَ عَلَى الْحَوْضِ، وَمَنْ لَمْ يَأْتِهِمْ وَلَمْ يُصَدِّقْهُمْ، بِكَذِبِهِمْ وَلَمْ يُعِنْهُمْ عَلَى ظُلْمِهِمْ، فَهُوَ مِنِّي، وَأَنَا مِنْهُ، وَسَيَرِدُ عَلَى الْحَوْضِ» (الترمذي والطبراني).

وهكذا يقف أئمة الضلال من الحكام قادةً لمرحلة الضياع والإفلاس، ويؤازرهم بعض العلماء الذين يستخدمون علمهم في تبرير الأوضاع، والتماس الأعذار للاستبداد والمستبدين، وفي خلط الحقائق حتى لا تكاد جمهرة الأمة تعرف المعروف من المنكر، ويتصدر هؤلاء الساحات المختلفة، وميادين العمل المتقدمة، فيحجبون الحق، ويظهرون الباطل، وتنزوى النماذج الصالحة، وتتألق النماذج الهابطة، وتتعرض سفينة الأمة كلها للضلال والضياع.

ولهذا حذر النبيُّ صلي الله عليه وسلم من الاستبداد، وقال: «إِنَّ شَرَّ الرِّعَاءِ الْحُطَمَةُ» (مسلم) والحُطَمة كالهُمَزة واللُمَزة: هو الذى يضرب الناس ولا يرحمهم، والذي يسوقهم سَوْقاً شديداً عنيفاً لا رفقَ فيه، ويأخذهم بالشدة، وهو كذلك الأَكُولُ الحريصُ، فإنَّ دأبَ الحاكمِ المستبدِّ الجائرِ أن يكون سيءَ النفسِ ظالماً بطبعه، شديدَ الطمع فيما فى أيدي رعيته، لا يحرص على نفعهم بقدر ما يحرص على نفع نفسه ولو بظلم رعيته.

ودعا النبي صلي الله عليه وسلم على الحاكم المستبد فقال: «اللَّهُمَّ مَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ أُمَّتِي شَيْئًا فَشَقَّ عَلَيْهِمْ فَاشْقُقْ عَلَيْهِ، وَمَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ أُمَّتِي شَيْئًا فَرَفَقَ بِهِمْ فَارْفُقْ بِهِ» (مسلم).

أكتب هذا بين يدي ما صدر في يوم الثلاثاء 29 شوال 1432 هـ الموافق 27 سبتمبر 2011م عما يسمى (جمعية علماء اليمن) من حث جميع أبناء الشعب اليمني على الالتزام بما أسموه البيعة المنعقدة في ذمتهم والوفاء بها عملا بقول الله تعالى ﴿وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا﴾[الإسراء/34]، وأخذ العبرة من الدول التي اتبعت نهج الثورات والانقلاب المسلح وما تعانيه من اضطرابات أمنية واقتصادية، ثم فتواهم بتحريم المظاهرات المداعية لإسقاط نظام الرئيس صالح، ووصفهم الثوار الذين خرجوا بمئات الآلاف والملايين في شوارع سبع عشرة محافظة بأنهم خارجون عن الشرعية! وذلك من أعجب العجب! إذ كيف تنعقد لهذا الحاكم المستبد ولاية شرعية والناس لا تريده، ومئات الألوف في الشوارع ليلا ونهارا ينادون برحيله، ويعلنون سحب تفويضهم له إن صح أنهم فوضوه أصلا.

وتجاهل السادة العلماء المذكورون أن شرعية الحاكم تعتمد على رضا الشعوب والتزام الحكام بشروط البيعة، وأن حركات المعارضة والاحتجاج السلمي للمطالبة بالحقوق المشروعة في الحرية والعدالة والإنصاف هي حق أصيل للشعوب في تقويم حكامهم الذين ينشرون الظلم وينهبون المال، ويزورون الانتخابات، ويطلقون أيدي أتباعهم وأجهزتهم الأمنية تنكل بالشعب المقهور، وليست هذه الحركات الاحتجاجية من الخروج المنكر في شيء.

لقد أغفل السادة المذكورون حقيقة أن الحاكم الذي يدافعون عنه ويدعون إلى طاعته، استبد بالسلطة منذ أكثر من ثلاثة عقود، وسعى إلى توريثها من بعده، وعارض الشرع الذي يستنجد بعلمائه، وبدلا من أن يستخدم الجيش في مواجهة أعداء الأمة فإنه استخدمه في ضرب أبناء شعبه، وهم يمارسون حقا كفله لهم الدستور الذي وضعه، فنقض بذلك ميثاق حكمه، وأهدر بذلك شرعية سلطته، وبدلا من أن يوجه هؤلاء السادة نصيحتهم إليه بالاستجابة لمطالب شعبه، والكف عن الإمعان في إراقة دماء الأبرياء المسالمين الذين خرجوا بصدورهم العارية وبحناجرهم وأصواتهم العالية دون سلاح ولا سيف ولا عصا؛ إذا بهم من حيث يدرون أو لا يدرون يسوقون له المبررات للاستمرار في قتل الأبرياء، ويطالبون الشعب بالاستسلام لإرادة الحاكم الظالم الذي سد الطرق تماما إلى الإصلاح.

فليتذكر سادتنا العلماء قول الله تعالى ﴿وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ﴾[هود/113] ، وليتذكروا أنه لا طاعة لمخلوق في معصية الله ﴿وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ. الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ﴾  [الشعراء/151، 152] وليقفوا مع شعبهم في مطالبه العادلة بحياة الحرية و الكرامة و العدالة والإنسانية، وعليهم أن يدركوا أن الشعب لن يهدأ حتى يخرج الشوكة التي تؤلم جسمه، ولن تقنعه تلك الفتاوى التي تقف عند ظواهر بعض النصوص وتهمل مقاصد الشريعة الغراء، وأذكر الجميع بقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إِذَا رَأَيْتُمْ أُمَّتِى تَهَابُ الْظَالِمَ أَنْ تَقُولَ لَهُ إِنَّكَ أَنْتَ ظَالِمٌ فَقَدْ تُوُدِّعَ مِنْهُمْ » (أحمد).