أنين الاقتصاد السوري.. من يصدق؟

عبد الله زنجير * /سوريا

[email protected]

في شرق المتوسط تمتد السواحل السورية بطول 200 كم تقريبا ، على الواجهة الآسيوية مابين أوروبا و أفريقيا . إنه الموقع الاستراتيجي الساحر الذي كان مقصد قريش في قوافلها التجارية ، و معبرا عالميا لطريق الحرير منذ 5000 عام .. و إبان الفتح الإسلامي لها أوجز هرقل مشاعره الباكية بقوله : وداعا يا سورية  وداعا لا لقاء بعده ! و لأن أراضي ( الجمهورية العربية السورية ) بمساحتها البالغة 185 ألف كم مربع ، تضم مختلف التضاريس الطبيعية من الجبال إلى السفوح و السهول ، حيث هناك 32 % أراض زراعية و 36 % مناطق تصلح للرعي والاستثمار الحيواني ، تقابلها ما نسبته 32 % من الرمال الذهبية مستبطنة للعديد من الثروات ، مثل النفط الذي ينتج منه يوميا 386000 برميل ، و الفوسفات الذي يستخرج منه مليون طن سنويا ، إلى الآثار العريقة و الممالك العتيقة كمدينة تدمر الصحراوية التي تعود للقرن الأول قبل الميلاد . و كذلك تتداولها الفصول الأربعة ، و يتوزع في ربوعها 16 نهرا و 15 بحيرة عذبة و آلاف الينابيع و السواقي و عشرات السدود المائية كبيرة و صغيرة

و جاء في كتاب ( دمشق ) للشيخ الأديب علي الطنطاوي - رحمه الله - أن فيها 50 نوعا من العنب و 30 نوعا من التفاح و 10 أنواع من المشمش ، و أنواع عديدة من الدراق و الكمثرى و التوت و الجوز و اللوز . وفي حقول حلب هناك الفستق الأخضر الذي انتشر منها إلى كافة البلدان ، و يعتبر القمح السوري القاسي هو الأفضل على مستوى العالم .. كل هذا الخصب المتوج بالدعاء النبوي لبلاد الشآم - كما في صحيح البخاري - جعل من هذه الأرض المباركة مطمعا مستداما للغزاة و المغامرين ، و حين نشاهد اليوم شلالات الدماء فيها ، لا يمكننا بحال استبعاد المسبب الاقتصادي لتحليل المشهد و الحدث بأبعادهما الموضوعية و اللوجستية ، بعيدا عن التفسير التآمري للديكتاتورية و التسطيح المفتعل للحقائق الدامغة . 

إن ما يحصل في سورية منذ 15 / 3 / 2011 م لا صلة مباشرة له بأية صورة من صور الطائفية أو المحاصصة أو الآيديولوجيا ، بل هو نتاج عملياتي و مولود شرعي لتخبط السياسات الاقتصادية و الاجتماعية المتوالية و المتأثرة بقشور الليبرالية الجديدة  لنظام الرئيس بشار الأسد  العصي على الإصلاح رغم ادعائه وصلا به ، فقد أدت تلك البرامج والممارسات الهجينة لتعميق الفجوة التنموية المناطقية و تهميش المدن المتوسطة و الصغيرة التي يشكل قاطنوها 49 % من إجمالي سكان المدن ، حيث لاحظنا سرعتها في ريادة الاحتجاجات مقارنة بسكان دمشق الإدارية و حلب  والذين تصل نسبتهم 37 % من قاطني المدن ، مما ينقلنا لثنائية المركز و الأطراف في بلد الإشتراكية المزعومة و نصرة العامل و الفلاح ! و تشير الأرقام لارتفاع مخيف  لمعدلات الفقر في السنوات الخمس الأخيرة حيث قفز من 5 / 11 % إلى 3 / 34 % تقريبا ، وقد أدى سوء توزيع الدخل القومي للتوتر الناعم و المتنامي ، حيث اكتنزت 90 % منه في جيوب أقل من 10 % هم من السابحين في فلك النظام و المسبحين بحمده ، و ظهرت تجليات ذلك في استهداف المتظاهرين لفروع ( سيريا تيل ) العائدة للمتمول الملياردير رامي مخلوف ، ابن خال الرئيس و رفيق طفولته والذي قيل أنه يتحكم بحوالي 60 % من الاقتصاد و السوق الداخلية ، حيث طالته مع 53 شخصية سورية و إيرانية و 11 شركة معروفة لائحة العقوبات الأوروبية حتى الآن ، مع منع لشراء النفط الخام السوري و الذي يمثل ثلث عائدات البلاد تقريبا .. و كان لانعدام المبادرات و المآلات المأساوية التي حصلت - مثلا - لوزير الصناعة الإصلاحي عصام الزعيم 2000 - 2003 م أو للدكتور عارف دليلة عميد كلية الاقتصاد في جامعة دمشق أو للنائب رياض سيف أو عبد الله الدردري ، أو لكل من سولت له نفسه تقديم النصيحة و إبراء الذمة ، أبلغ الأثر في تفشي المشكلات وانتشار الفساد الذممي ، فوصلت سورية للمرتبة 127 من أصل 178 في مستوى الفساد بحسب منظمة الشفافية الدولية لعام 2010 م

لقد بقي النظام مراهنا على الهرم الأمني المعاق عقليا و الممسك بتلابيب البشر ، بينما كان رأسه ( المثقف ) يسدي المواعظ للآخرين و يتابع و يراقب دبيب لبنان لحظة بلحظة ، و هذه إحدى أثافي المأساة . فالنظام الذي استولى على السلطة في 8 / آذار مارس / 1963 م باسم حزب البعث ، عاد لتصفية صفه الأول من غير الطائفة العلوية ( تعدادها 10 % من الشعب ) و ذلك سنة 1966 م ثم عاد ثانية من خلال الحركة التصحيحية 16 / 11 / 1970 م لتصفية كل مناوئ أو منافس محتمل للعائلة الأسدية سواء من العلويين أو غيرهم ، ليصل إلى حالة التوريث الفج و تغيير الدستور قبل أحد عشر عاما .. و كان يجدر به خلال كل تلك العقود احتواء التحولات الاقتصادية و السياسية الكونية ، على أسس من الفهم و العدل و التواضع ، إذ لا يجدر أن تبقى عجلة الاقتصاد تراوح في مكانها منذ ستينيات القرن الماضي إهمالا و ترقيعا . و بعد نجاح التوريث تم رفع شعار الإصلاح و التحديث و محاربة الفساد ، ليتم الانقضاض سريعا على أزاهير ربيع دمشق ربيع الحرية ، و ليتم تقييد الرؤية بالنموذج الصيني مع التفاوت الهائل مابين النموذجين ، حيث راحت الأطراف المتنفذة تلتهم كل الثغرات و التسهيلات المفترضة للمستثمرين و التصدير ، وازداد خرق القوانين العجيبة الغريبة أصلا وازدادت الثروات الحرام تكدسا و تفاقمت حالات العوز و التهجير الاختياري بحثا عن لقمة العيش لملايين السوريين . فقد وصلت أعداد المغتربين منهم - في السعودية مثلا - لأكثر من مليون ومائتي ألف وافد ، ليبلغ السيل الزبى بحديث الرئيس السوري لصحيفة وول ستريت جورنال مطلع السنة الحالية ، والتي تحدث فيها عن فلسفته غير الموفقة للتغيير والإصلاح . و للأسف فإن هذا البلد الثري الرحيب المكتفي ذاتيا و الذي يصدر الكثير من السلع و المحاصيل ، لم يعد فيه متسع لغير المترفين و المفسدين و مشايعيهم و مصالحيهم إلا ما ندر ، فهل ثمة مستمع لأنين اقتصاده و تحذيرات اقتصادييه ؟ لأنين نخبه المهجرة التواقة لبناء وطنها الأحب والتي تقدر أموالها بأكثر من 80 مليار دولار ؟ وهل استمع بشار الأسد لتحذير الشيخ السعودي صالح كامل قبل سنة من الآن حين طالبه بحركة تصحيحية ضد الفساد ؟

إن الاحتجاجات المتصاعدة مؤخرا كرست من متاعب الحكومة في دفع رواتب موظفيها ، كما تراجعت بورصة دمشق بنسبة 41 % و وصل معدل السياحة للصفر هذا الموسم مقارنة بثمانية ملايين سائح في 2010 قدموا للخزينة نحو 12 % من الموارد ، و تراجع معدل النمو الاقتصادي بنحو 5 % بدلا من أن ينمو بنسبة 3 % كما كان متوقعا ، و الكثير من رؤوس الأموال تجمدت أو تراجعت ، و خليجيون كثر صرفوا النظر عن الاستثمار في السوق السورية . و بعد سقوط أكثر من ثلاثة آلاف ضحية  منهم 189 طفلا بريئا ، بات من الصعوبة أو المستحيل  التفكير بأية وصفات إنقاذية أو إصلاحية قبل التغيير الجذري . و لفهم مدى المفارقة في التنكيل و التعذيب لمجمل الوضع الاقتصادي و الجيو سياسي في سورية ، تحصي الباحثة عائشة الدباغ في كتابها ( الحركة الفكرية في حلب في النصف الثاني من القرن التاسع عشر و مطلع القرن العشرين ) أكثر من 36 صحيفة و مجلة اقتصادية و ثقافية و فنية مطلع القرن العشرين في حلب وحدها ، مقابل صحيفة هزيله وحيدة لا تزيد عن 4 صفحات هي ( الجماهير ) التي صدرت في عهد الأسد الأب ، بديلا و خنقا لكل ذلكم الحراك

و مع ذلك فإن سورية الشبابية تستطيع بمواردها و طاقاتها تضميد الجراح و إطلاق المستقبل ، فهي و بظل كل العوائق وصلت للمرتبة الأولى عربيا في قطاع الدواجن باستثمارات بلغت 150 مليار ليرة سورية ، و ما كان يزعمه النظام من أهمية التسليح و التجييش و نهش 73 % من الميزانية لأمنه و قواته التي لم تطلق النار على العدو لعشرات السنين ، فهي محض مبالغات في النهب الممنهج والاستحواذ على مصادر المال المؤمم ، سواء عن طريق الضرائب الباهظة أو المشاريع المتضاربة ، بما لا يفعله عدو بعدوه

اللهم ارفع الضيم عن الشآم.

                

*عضو رابطة أدباء الشام