إعادة تعريف السلمية
رسائل الثورة السورية المباركة (42)
الثورة السورية: المرحلة الثانية (8)
مجاهد مأمون ديرانية
أنا قديم الإعجاب بالأستاذ جودت سعيد منذ تعرفت على كتبه وأفكاره قبل ثلث قرن، ولعلي قرأت كل كتاب من كتبه عشر مرات على الأقل، ومن ثم فقد تعرفت مبكراً على فكرة اللاعنف التي يروّجها ويدعو إليها، ولا أخفيكم أنني اعتبرتها فكرة عبقرية، لو فقهها الناس وطبقوها لوفروا على أنفسهم كثيراً من الكوارث. وأنا لست من مقام الأستاذ جودت لأستدرك عليه، ولكن استدراك الأصاغر على الأكابر مألوف في تاريخنا العلمي دون الانتقاص من قَدْر الكبير وسَبْقه، لذلك سوف أسمح لنفسي بالاستدراك على نظريته، فأعتبر أن اللاعنف موقف مصلحي وليس قضية مبدئية كما يقول، فالرد على العنف باللاعنف هو اختيار أقل الضررين، ولو أجمع أهل الرأي على أن اللاعنف يقود إلى ضرر أكبر لوجب تركه والرد على العنف بالعنف.
لا شك أن اللاعنف فكرة جميلة وأنها توفر كثيراً من الآلام والدماء لو طُبقت تطبيقاً سليماً، لكن تبقى كلمات ربنا أعلى وأقوم: {فإن قاتلوكم فاقتلوهم}، {وإن جنحوا للسلم فاجنح لها}: حرب بحرب وسلم بسلم. ولكن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه واجهوا حملة قريش الآثمة الشرسة ضدهم في مكّة بسلمية، ألم يفعلوا؟ بلى. سيقول قائل إن ذلك كان حكماً خاصاً بالمرحلة المكية، وليس في يد من يقول ذلك دليل. صحيح أن القرآن حرّم عليهم القتال في تلك المرحلة، ولكن لماذا لا يكون الحكم معللاً بعلّته؟ لو أنهم قاتلوا دفاعاً عن أنفسهم لردّ القرشيون عليهم بالسلاح ولفَنيت الجماعة المؤمنة الصغيرة، أما المواجهة السلمية فقد أرغمت العدو على الاقتصار غالباً على حدّ من البطش هو دون العدوان المسلح والحرب الشاملة، فاستُشهد عدد قليل من الجماعة ونجا أكثرها. في وقت لاحق صار للجماعة كيان وجيش وسلاح، وتعرضت إلى العدوان المسلح فردت على السلاح بالسلاح، كيان قوي دفع بالسلاح كياناً قوياً هاجمه بالسلاح، ولو استسلم للسلاح لفني وانقرض، فلم يكن للسلمية محل في ذلك الموقف كما لم يكن للسلاح محل في الموقف الآخر قبله.
هكذا أفهم السلمية: موقف تُمليه المصلحة ويُختار بمفاضلة أقل الضررين، وغالباً يكون هو الخيار الأفضل في أي نزاع ضمن الكيان الواحد، فلو اختلف أخوان وتسامح أحدهما مع الآخر فسوف يموت الخلاف في مهده، فإذا ردّ أحدهما على الآخر فيمكن للخلاف أن يتطور إلى شِقاق بين أسرتين. ولو اختلفت طائفتان من الجماعة فاعتدت إحداهما بالسلاح وقابلتها الأخرى بالصدر المكشوف واليد الخالية من السلاح فيغلب أن تضع الأولى سلاحها، وفي أسوأ الحالات قد يرتكب رجل أهوج أو اثنان حماقة محدودة فيسقط قلّة من الضحايا، أما لو ردت الفئة الثانية بالسلاح على اعتداء الأولى فسوف تبدأ حرب داحس والغبراء! طالما فكرت في الفتن الكبرى وحروب المسلمين التي راح فيها عشرات الألوف وقلت لنفسي: لو وضع أحد الطرفين السلاح ورفض أن يُستدرَج إلى الحرب لانتهت المشكلة بآحاد أو عشرات من الضحايا على الأكثر. هذا المعنى جعلني أكثرَ فهماً للآية التي هي العمدة في نظرية اللاعنف عند الأستاذ جودت سعيد، حيث يقول أحد ابنَي آدم لأخيه لمّا همّ بقتله: {لئن بسطتَ إليّ يدك لتقتلني ما أنا بباسط يَديَ إليك لأقتلك}. لو مدّ الأخ يدَه بالسلاح ستتحول المواجهة إلى حرب بين جماعتين لأن لهذا الأخ إخوة ولهذا إخوة، وإذا بدأت الحرب بين الأشقاء فإنها لا تنتهي إلا بالخسائر الجِسام، أما حين كفّ الأخ يده عن الأخ فقد انتهت الحرب بضحية واحدة.
أطلت عليكم وسمحت لنفسي ببعض التفصيل لأن السلمية ركن من الأركان الرئيسية التي اعتمدَتها الثورة في سوريا، ولا يُعقل أن نعتمد ركناً مبهم المعالم؛ ينبغي لركن الثورة ولما اعتُبر أصلاً من أصولها أن يكون واضحاً وأن يُتّفَق على تعريفه.
لقد وضّحت وجهة نظري وبيّنت أن السلمية سلوك تُمليه المصلحة وليس مبدءاً أخلاقياً مطلقاً، والآن سأعرّفها أكثر فأقول: إن السلمية لا تعني الاستسلام. الاستسلام سلوك قبيح لا يلجأ المرء إليه إلا مضطراً وتجنباً لشر كبير، كما تشاهدون في الحروب عندما يستسلم القائد ليوفر على جنوده الإبادة، وذلك إذا حوصر ونفدت ذخيرة جنوده أو مؤنهم ولم يبقَ لهم من سبيل للدفاع عن أنفسهم مثلاً. في سوريا اليوم حالات لا سبيل فيها إلا الاستسلام. عندما يجتاح البلدةَ أو الحي جَحفلٌ من القَتَلة مؤلف من آلاف الشبيحة وعناصر المخابرات ويقتحمون البيوت لاعتقال أصحابها، فيجتمع على البيت الواحد عشرون أو ثلاثون منهم وليس في البيت إلا رجل أو بضعة شبّان، ماذا يصنعون؟ إنهم لا يستطيعون مقاومة الاعتقال، ولو قاوموا فربما يزيدون على أنفسهم الكرب بلا نتيجة. حدّثنا أحد الإخوة من منطقة قريبة من دمشق عن حملة اعتقالات واسعة جرت في الشهر الثاني من شهور الثورة، اعتُقل فيها عدة مئات من رجال المنطقة وشبابها فغابوا أسبوعاً أو اثنين ثم أطلقوا، إلا واحداً أعيد لأهله ميتاً بعد تعذيب شديد، وكان قد فار الدم في عروقه لمّا اقتحم المجرمون بيته فسحب سكين جيب وجرح به الضابط الذي يقود الاقتحام. لا أملك إلا أن أعجب بشجاعة ذلك الرجل رحمه الله، ولكنها في مثل هذا المقام تهوّر يورد صاحبه موارد الهلاك، لذلك أقول إن الاستسلام هنا هو الموقف الأحكم وهو ما تمليه الضرورة.
لكني لن أوصي أبداً بالاستسلام أمام هجوم عصابات الشبيحة في المظاهرات. المتظاهرون يمشون معاً في جماعات ويستطيعون الدفاع عن أنفسهم، فلماذا يستسلمون للعدوان؟ لذلك أوصيت إخواني في حلب في مقالة قديمة أن يحملوا العصي وأن يدافعوا عن أنفسهم، وأوصي بهذه الوصية كل المتظاهرين في كل مدينة وقرية في سوريا: احملوا أعلاماً مربوطة بعصي، فهي أعلام ترفرف في سماء المظاهرة ما تركوكم، وهي عصيّ تؤدبونهم بها وتردّون بها عدوانهم ما اعتدوا عليكم، ولا يُخِلّ دفاعكم عن أنفسكم بسلمية مظاهراتكم بإذن الله. بل يمكن أن تذهبوا إلى أكثر من مجرد الدفاع عن النفس، فإذا ظفرتم بشبيح فلا تتركوه بأقل من خمس عظمات مكسورات أو عشر، في ساقيه وساعدَيه وكتفيه وما شئتم من عظامه، ثم ارموه في حاوية القمامة كما صنع إخوان لكم غيرَ مرة، ولا يُخِلّ تكسيرُ عظام شبّيح بسلمية مظاهراتكم بإذن الله. أما المُخبرون والعواينية فلهم شأن آخر، أولئك كسّروهم تكسيراً ولا تبالوا، ستبقون سلميين ولو كسّرتموهم، وسوف أعود إليهم في مقالة آتية بتفصيل أكثر بإذن الله لأنهم أشرّ الناس وأضرّهم على الثورة بإطلاق.
* * *
إن الضغط يزاد على الثورة والنظام يوغل في الإجرام، والثورة أعلنت من أول يوم أنها ثورة سلمية، بمعنى أنها لن تحمل السلاح ولن تتحول إلى ثورة مسلحة. ولكن هل معنى السلمية أن نستسلم للذبح؟ نحن ثوار عُزَّل والعدو مدجج بالسلاح وجاهز للقتل، فهل نسمح له بأن يقتلنا بلا حساب؟ لا، بل لنصنع ما يصنعه الطفل الصغير بغريزته الصحيحة. إنه إذا غضب عليه أبوه يفرّ إلى حضن أمه، وإذا هددته أمه احتمى بأبيه.
الطفل يستمدّ الحماية من أبويه، والشعب يستمد الحماية من أجهزة الأمن، وهما اثنان: جهاز للأمن الداخلي يحمي المجتمع ويمنع بعضَه أن يعتدي على بعض، وجهاز للأمن الخارجي يحمي الوطن، وهو الجيش. الجهاز الأول في سوريا لا خيرَ فيه ولا أمل منه، فقد بُني من حين بُني ليحمي النظام ويُرهب أبناء الوطن، وهو ماض على خطته تلك إلى اليوم بأبشع صورة. أما الثاني، الجيش، ففيه أمل. سوف أتحدث عنه في واحدة من "الحملات" المطلوبة في المرحلة المقبلة بتفصيل أكثر، أما في هذا المقام فإني أريد التركيز على دوره في حماية الشعب الأعزل.
كما أن الوالدَين تناوبا التهديد والحماية في حياة الطفل في المثال السابق فإن الجيش سيقوم بالأمر نفسه، سوف نحتمي بالجيش الصديق من الجيش العدو؛ الأول هو القسم المنشقّ من الجيش والثاني هو الجيش الموالي للنظام. أعلمُ أن حجم الأول لا يُقارَن بحجم الثاني، فما الآلاف مقابل مئات الآلاف؟ وما العتاد الفردي مقابل السلاح البري والجوي والمدافع والصواريخ؟ ولكن بعض الحماية أفضل من لا شيء، وهذا الجيش يمكن أن يكبر حجمه، بل ينبغي أن يكبر، وهو سيكون عنصراً رادعاً في أقل الأحوال فيخفف من وطأة أجهزة الأمن المجرمة والعصابات الشبيحية ولو لم يوقفها تماماً.
الانشقاقات في الجيش تزداد يوماً بعد يوم، واليوم وأنا أكتب هذه الكلمات نُشرت أخبار جديدة عن انشقاقات في زملكا وكفر بطنا والزبداني في ريف دمشق، وفي حمص والرستن، وفي دير الزور. بعضها انشقاقات كبيرة قد تصل إلى مئة وبعضها عشرات قليلة، هذا كله في يوم واحد، ولا يكاد يمر يوم بلا انشقاقات. ولكنّا لا نريد أن يتحول الجنود المنشقّون إلى عبء على المدنيين. في الأيام الأولى حينما انشق الجنود في درعا تركوا أسلحتهم والتجؤوا إلى المدنيين، وسرعان ما صار المدنيون هدفاً لعصابات النظام التي شنت حملات بحث وتمشيط انتهت بقتل العسكريين المنشقين والمدنيين الذين وفروا لهم المأوى والحماية والضيافة، رحم الله الجميع. مع الوقت تعلم الطرفان من الأخطاء وعرفوا الطريقة التي يتصرف بها النظام فطوروا أساليب أكثر فاعلية، واليوم صار المنهج المتّبَع أن يتحول المنشقون إلى قوة حماية تدافع عن المدنيين، فرادى أو ضمن تشكيلات بدأت تأخذ شكلاً نظامياً مع الوقت.
لعلكم تتابعون أخبار عمليات كتيبة خالد بن الوليد في حمص، لا يكاد يمر يوم بأقل من خمس عمليات بين تدمير حافلة (باص) للشبيحة بمن فيها أو عربة مدرعة أو حاجز أو مهاجمة مقر أمني، إلى غير ذلك من العمليات التي تلقي الخوف في قلوب الأمن والشبيحة بإذن الله وتردّ عن المدنيين العزّل بعضَ بأسهم. وقريب من هذا ما تعلن عنه بين وقت وآخر كتيبة القاشوش في حماة وكتيبة معاذ الركاض في الدير وكتيبة الله أكبر في البوكمال وكتيبة حمزة الخطيب في جبل الزاوية. واليوم وقبل ساعات فقط أعلن العقيد رياض الأسعد، قائد الجيش السوري الحر، عن خبر مهم أرجو أن يكون له شأن في الأيام القادمة، وهو تشكيل كتيبة معاوية بن أبي سفيان في دمشق وكتيبة أبي عبيدة بن الجراح في ريف دمشق.
الذي أراه -والله أعلم- هو أن الجيش الحر يتصرف حتى الآن بمسؤولية وبطريقة صحيحة، وقد أعلن قبل أيام قليلة أنه لا يتبنى أي مناداة من أي جهة كانت لحمل السلاح من قِبَل المدنيين، وقال إن كل من يروّج هذه الأفكار على وسائل الإعلام إنما يمنح النظام ذريعة لقتل المدنيين، وشدّد على أن الجيش السوري الحر هو الجهة المخوَّلة بالدفاع عن المتظاهرين والمدنيين، كما طالب المطلوبين للخدمة الإلزامية بعدم الالتحاق بمراكز الخدمة التابعة للنظام قائلاً إنه سيتم فتح باب التطوع في الوقت المناسب.
الخلاصة: إن السلمية -كما أفهمها- ليست استسلاماً أبداً. والسلمية -كما أفهمها- ليست "سلمية سلبية" بل "سليمة إيجابية"، فإذا استطعتم الدفاع عن أنفسكم بالعصا أو الحجر أو غيره من الأدوات "السلمية" فلا تترددوا أبداً، وإذا قبضتم على شبيح فاجعلوه موعظة لغيره، وإذا توثقتم من مخبر فاتخذوا كل إجراء ممكن لاتقاء شرّه ودفع ضرّه، واطلبوا الحماية ولكن ليس من أميركا والناتو بل من جيشكم الوطني الحر المنشق، واضغطوا على المجتمع الدولي والقوى الصديقة (ولا سيما تركيا) لإمداد هذا الجيش بالعتاد والسلاح، فإن ما عنده من سلاح سينفد ما لم ترفده انشقاقات جديدة أو تمده بالسلاح دولُ الجوار. كما أنه سوف يحتاج في مرحلة لاحقة -إذا طالت الثورة وتطورت عملياته كمّاً ونوعاً- إلى منطقة آمنة تضم مركز عملياته ومعسكرات التدريب ومستودعات السلاح، وهذه ستكون مسؤولية واحدة من دول الجوار، ويبدو أن تركيا هي الأكثر ملاءمة لتقديمها.
* * *
بنهاية هذه المقالة أكون قد قلت كل ما أريد قوله عن إنجازات الثورة السلمية وفرصتها الكبيرة في إسقاط النظام مع الاحتفاظ بسلميتها، مع تعريف السلمية المقصودة، وأبديت رأيي بشأن أشكال التدخل الأجنبي، ما يصحّ منها وما لا يصحّ وما يفيد وما لا يفيد، ونقضت فكرة تحويل الثورة السلمية إلى ثورة مسلحة. الآن وبعد الفراغ من كل ذلك سوف أبدأ بتفصيل الخطوات المطلوبة في المرحلة الجديدة.
لقد قلت في المقالة الأولى من هذه السلسلة إن الثورة السورية أنهت مرحلتها الأولى مع غروب شمس آخر أيام رمضان ودخلت في مرحلة جديدة تقتضي تطوير وسائل جديدة، لنتفق على تسمية هذه المرحلة "المرحلة الثانية من مراحل الثورة"، ولنطلق لها شعاراً محدداً هو "الانتقال من المعارضة السلمية إلى المقاومة المدنية".
الآن جَدّ الجِدّ وسيبدأ العمل بنَفَس جديد وروح جديدة بإذن الله، فهيا نمشي خطوة خطوة في هذا الطريق بدءاً من المقالة الآتية بإذن الله تبارك وتعالى.