مع الطالب و شيخه 1

مع الطالب و شيخه

الحلقة الأولى: تقديم

بقعة ضوء

السلام عليكم,

هذه مناظرات تقدمها لكم بقعة ضوء بشكل جديد عسى الله أن ينفع بها من كان له قلب من أهل الشام..

لم يستطع الشيخ "ناصر" النوم في تلك الليلة, فقد أوى إلى فراشه بعد عودته متأخرا من مجلس الشيخ الأعظم في دمشق و جفا النوم عينيه و تقلّب في فراشه كثيرا قبل أن ينهض و يفتح النافذة و يطل منها على بيوت  حارته و شوارعها الدمشقية, كانت ملامح ليلة ظلماء هادئة لا يُسمع فيها إلا صوت الهواء يتغلغل بين صفيح اسقف المحلات المنتشرة هنا و هناك ... أخذ يفكر ... هذه ليلة أخرى من ليالي الصمت القاتل في حيه الذي يسكنه و سط دمشق, فالبلد مشتعلة من اللاذقية غرباً إلى البوكمال شرقاً، ومن خربة الجوز شمالاً إلى الجيزة جنوباً إلا هنا في حارته و حارات دمشق و حلب حيث الناس لا همّ لهم إلا أن ينهوا أعمالهم و "يتمشوروا" و يصلوا آخر النهار إلى بيوتهم بخير و أمان و من ثم يوصدون أبوابهم و ليكن ما هو كائن!

استرجع الشيخ ناصر الأحداث من بدايتها و استرسل في تفكيره, لقد تأكد له أن الناس قد سئموا من كلمة "الأسد" كما سئموا البعث و تسلطه و جبروته, فقالوا مطالبهم بكل صراحة و اعلنوها بوجه العالم أن ( الشعب يريد إسقاط النظام) ما عدا الشبيحة و شيخه (!!!) و من حالهُ من حالهِ على درب الشيخ!

أخذ يفكر كيف أنه في كل يوم, هناك دموع لإخوانه من أهل سورية تترقرق, و قلوب تأن هنا و هناك, و مهج تتمزق و كيف أنّ الناس صارت تمسي كل ليلة و كل ماحولها يريبها ... فإلى متى هذا الشقاء المطبق على أهل سورية؟

الحزن يطحن بأهل حمص و حماة و الدير و مدن الساحل السوري طحنا, فأين المهرب و المخرج لهم؟ 

والجروح تنزف في كل مكان, فأين المشفق عليهم ؟ و الأمهات الثكالى و الزوجات الأرامل و و  و  ...

"أنت الرحيم يارب ... وأنت وحدك سيدي" تمتم بها الشيخ ناصر و هو يغلق النافذة و عاد إلى فراشه متربعا و جمع  رأسه بين كفيه و استرجع مادار بينه و بين بائع اللبن أبو صالح و صديقه "محقّ" هذا الصباح و كيف انتفض أبو صالح في وجه صديقه و كاد أن ينسبه إلى أحد أفراد العصابات المسلحة التي تجوب البلاد, و لربما لو لم يسحبه من يده و يجره خارج المحل جرا بحجة أنهم تأخروا, لرفعه أبو صالح إلى رتبة سلفي او إلى رتبة الأخوان المحكوم عليهم بالاعدام ثم واحد من مجرمي القاعدة أصحاب الأجندات وسبق أن تدرب في أفغانستان و ممول من أمريكا و اسرائيل, و كل هذا بسبب أنّ "محقّ" هاجم الحكومة و اتهمها بالإجرام و أنها من دبّرت لعلي فرزات الرسام ما حل به من نقمات بعد أن صوَّر ضحايا الشبيحة من المتظاهرين و عليهم آثار حوافر الحمير!

لا بدّ أنه رسمٌ بألفٍ من خطبه العصماء, قالها الشيخ "ناصر" محدثا نفسه, و استطرد, لكنها جلبت على صاحبها الشقاء ... يبدو أن قانون الإعلام الجديد الذي ولِد بعد يومين من هذا الإعتداء و الذي خرج من تحت مظلة الإصلاح الذي يقوده السيد الرئيس, لم يكن ليحمي ذلك المسكين من بطش هؤلاء المجرمين .... و يبدو أنّ "محقّ" كان محقا هذا الصباح عندما قال أن الإنسان في سوريا ممنوعٌ حتى أن يكون محايدا ... تنهد ناصر بينه و بين نفسه ...

الحقيقة أنّ ما كان يشغل بال الشيخ "ناصر" و يمنعه من النوم حتى هذه الساعة هو ذلك النقاش الحاد الذي اشتعل بينه و بين صديقه "محقّ"  الثائر و الذي لامه بشدة على سكوته أمام أبي صالح و اتهمه بالجبن, بل ذهب أبعد من ذلك و هاجمه وأستاذه و مرجعه الأكبر الشيخ البوطي و خوّنه و ذكر أنّ الرجال مواقف و ليس بالعمائم أو المناصب و أنه لا عذر لهم بعد اليوم مع جميع تلك الدماء الطاهرة البريئة التي تسفك في كل ساعة و المساجد التي تنتهك و القرآن الذي يمزق و الآلاف من المغيبين وراء القضبان والذين لا يعرف عنهم أحد شيئا و و و و و حتى شعر "ناصر" بالدوار و قرر أن "محقّ" قد تجاوز الحد و أنه لا بد من الفراق, فتركه و سار لوحده في الطريق!

و حقيقةً أنّ لمحقّ هذا مكانة عزيزة في قلب الشيخ "ناصر", فهو صديقه منذ الطفولة و تجمعهما عاطفة قوية من الأخوَّة و الودّ و المحبة بل و حتى الندية فالشيخ "ناصر" الخطيب المفوَّه و خريج المعاهد الشرعية و الذي يجهر بالحق من على منابر دمشق و يأمر الناس يالتقوى والصلاح و يحدثهم فيما ينفعهم كل جمعة, لطالما كان "محقّ" الشاب الكادح و الذي لم يكمل تعليمه الأكاديمي بسبب ظروفه المادية الصعبة, لطالما كان ملهمه في مواضيعه الإجتماعية التي يطرحها من على المنبر, و لطالما نهل من نقده اللاذع للتجار و المسؤولين و حوله إلى هجوم ناري على الفاسدين و المفسدين في دمشق ...

و لكن أن يطعن اليوم في عالم بوزن الشيخ البوطي فهذا أمر غير محتمل, و ينم عن جهل ربما لكن بالتأكيد سوء أدب, فقرر ان يكتب إليه ناصحا لعلّ الله أن يصلح حال الجميع, فامسك بالورقة و القلم و ابتدأ من فوره بالكتابة, فالشيخ ناصر إن أمسك القلم لا يفكر كثيرا ما سيكتب, بل إنه يكتب فورا ما يحس به ...

سنتناول في حلقاتنا هذه ما دار بين الصديقين و نعرض لوجهة نظرهما و سنبدأ بما كتبه الشيخ "ناصر" و نكمل إنشاء الله في الحلقة الثانية

كتب الشيخ "ناصر" معاتبا:

من عجائب هذا الزمن:

 أن يُعَلّم الدهماء العلماءَ كلاماً محدداً ليُلقى على المنبر، فمن امتثل لهم فهو مصيب .. وإلا فهو خائن خائف رعديد.

أن يقيّم عوام الناس علماء أفذاذاً قد أفنوا حياتهم في خدمة شرع الله عز وجل، ويصنفوهم ما بين مخطئ ومصيب

 أن يتطاول الرعاع والسفهاء على أناس صالحين توجهوا لعزاء ذوي بعض القتلى فيصرخون في وجوههم: (ما بدنا مشايخ) أو تسمع قائلهم يقول: (مصيبتنا في علماءنا). ونسأل الله تعالى أن لا يحرمنا من بركة أهل زماننا

أن تغدو غيبة العلماء مستحبة بل واجبة في بعض المجالس باسم شرع الله، فلا ينجو منها حتى المحسوبون على العلم وأهله

.................................

يتبع