مَن يخاف التغيير
عبد الرحيم صادقي
تتنازع المغرب الآن قوتان: قوة محافظة وقوة تغيير. يمثل القوة الأولى القصر وأعوانه، بينما يمثل الثانية حركة شبابية غير ممثلة سياسيا. وغنيٌ عن البيان أن هذا التدافع القائم بين القوتين سنة من سنن الحياة، وقانون طبيعي لا يقل فطرية عن قانون الحياة و الموت، والولادة والنمو. لكن التدافع يؤول لا محالة إلى إنتاج وضع جديد يحدد معالمَه ميزان قوى محلي وعالمي، وسننُ تغييرٍ كونية جارية. قد يُحسِن الطرفُ الأصلح استثمارها فيكسب النزال، وقد يخفق فتكون الغلبة للأقوى وإن كان فاسدا. لكن غلبته على كل حال لا تدوم، كيف والأيام دول، تارة لك وطورا عليك! لكن التدافع قد ينتهي بتوافق أيضا متى استشعر طرفَا المنازعة أن لا غالب ولا مغلوب.
وإذا كان من المسلم به أن لا شيء يخرج من العدم، فالصحيح عدُّ حركة 20 فبراير امتدادا لنضال الشعب طيلة عقود من أجل دولة الحق والعدالة، قاد مسيرته مناضلون وأحزابٌ ممانعة يكاد لا يربطها شيء بأحزاب اليوم التي غدت لبِناتٍ في هرم النظام القائم. اتخذت حركة التغيير هذه آليةَ المنازعة الميدانية السلمية، أبانت عَبْرَها عن طول نفَس يصارع من أجل انخراط شعبي حقيقي من أجل التغيير.
بينما استدعت القوة المحافظة آليات لإدارة الصراع لا تمت إلى الربيع العربي بصلة، بل لكأنها تُطرَح خارج سياق ما يحدث على أرض العروبة. بدا أن هذه الآليات مجرد خطوات استباقية ظاهرُها التغيير وباطنها المحافظة والجمود. وآخر ذلك:
مصادرة حق التفكير لصوغ الميثاق الرابط بين الحاكم والمحكوم.
الدعوة إلى المصادقة على ما تقرر سلفا.
تجعل آلية المنازعة هذه الشعبَ خارج دائرة القرار والاختيار والفعل السياسي الحق. ففي الوقت الذي كان من المنتظر أن تَحدث القطيعة مع نمط سياسي قائم على الحكم استنادا إلى مفاهيم القداسة المنبثة هنا وهناك، وحيث أُضْمِرت بعدما كان مصرحا بها، ثم العمل على تشييد نمط مخالف قائم على مفاهيم التدبير الإنساني من حيث هو فعل بشري اجتهادي يعتريه الخطأ والصواب، أبى النظام القائم إلا أن يستبعد مبدأ المساءلة والمحاسبة والحوار والنقاش فيما هو قابل للمناقشة بطبعه. إذ السياسة تدبير للشأن العام بعد تفويضٍ وإنابة، ومن حق المفوِّض متابعة الحاكم وفق شروط التعاقد بين الاثنين. كان المفترَض أن يبحث النظام عن الشرعية بعيدا عن إشراكِ فاعلين وهميين، وأحزابِ الحملات الانتخابية التي لا سند شعبي لها، ونقابات الفعل الموسمي المتذبذب، وفقهاءِ القانون الذين تعوَّدوا تحريرَ النصوص بعد أن يُسَيِّجوا أنفسهم بدوائر حمراء لا تنتهي، وبعيدا عن علماء رسميين جعلوا قصارى هِمَّتهم المباركة والتسويغ الشرعي، لا النصح والصدع بالحق.
كان المفترض أن يُعْمَد إلى الشعب لاستمداد الشرعية منه، بدل إضاعة الفرصة التي قد لا تَسنحُ مرة أخرى. ومادام أن مطلب قوة المنازعة الرئيس هو ملكية برلمانية، فلا حلَّ يلوح في الأمد السياسي القريب إلا امتلاك الجرأة اللازمة لتشييد ذلكم النمط السياسي كما هو متعارف عليه عالميا، مادام أنه كُتِبَ علينا التقليد حاضرا عجزا وذِلَّة، وبعيدا عن خطاب الخصوصيات والاستثناءات التي تجعل المواطن المغربي كائنا فضائيا يحاول التأقلم مع طبيعة هذا الكوكب! ليظلَّ يراوح مكانه في ظل انتقال ديموقراطي لا يُراد له أن ينتهي بدعوى عدم النضج وافتقاد الرشد، الذي يظل "ماركة" مسجلة باسم أولياء الأمور.
أُجمِلُ تقديري للوضع الراهن كما يأتي:
الحراك الشعبي الحاصل علامة الصحة ودليل الحياة، وسِلْميَّتُه أمارة الرشد والنضج. لا يخشاه إلا المفسدون من كل صنف.
ليس هناك من مَخرج لهذا الترقب المشوب بالحذر إلا الإقدام الجريء على تخطي الموبقات السياسية، التي لا شرعية لها إلا العادة وطول الأمد.
ضرورة نبذ هذه المكيافيلية التي جعلت الدولة في حرج كبير بدت معه في تردد ظاهر تجاه ما ينبغي فعلُه إزاء إصرار الشباب على التغيير. فتارة قمْعٌ وطورا إشادةٌ وترحيب، وحينا تَفرُّجٌ وحينا آخر تشويه إعلامي...وهلمَّ تخبُّطا.
الانتقال من المشروعية المستندة إلى سلطة الماضي الأزلي -كما أوضح ماكس فيبر- إلى المشروعية المستندة إلى قواعد الحكم العقلانية التي تقضي أن يكون الناس كلهم سواسية أمام القانون، وأن تكون علاقة الحاكم بالشعب قائمة على تعاقدٍ واضحِ الالتزامات جلِيِّ الحقوق، يكفل حق المحاسبة والرقابة.
تَرَكُّزُ أعمال وصلاحيات في يدٍ واحدة يضر بالسياسة وإدارة الشأن العام. فمِن شأن ذلك أن يبدو مَن تجمعت بيده الصلاحيات وقام بالأعمال وكأنه يملك قدراتٍ خارقة للعادة، أو لكأن تضحياتِه من أجل الوطن تفوق كل تقدير، فيصير من المتعذر محاسبته. كيف وقد وقَر في العقل الباطن أن ذلكم الشخصَ ليس من طينة البشر. إن التدبير السياسي العقلاني يقتضي القيام بمهام بسيطة ومحددة، حتى يشعرَ الناس جميعُهم أنهم مسؤولون عن البلد بنسبٍ متفاوتة بلا تراتبية فارغة من كل معنى، أو هرمية مُجحِفة تجعلُ مَن هو في أعلى الهرم في منأىً عن كل محاسبة سواء عمل أم لم يعمل، وبلا ضابطٍ لمجال العمل وحدوده. بينما يُحاسَب مَن هو في الأسفل الحسابَ العسير.
نحسبُ أنه لو سارت الدولة في هذا الاتجاه لمَا كانت في حاجة إلى "سلف" (وما أبعدهم عن السلف)، خرجوا من الفانوس السحري على غير ميعاد ليُعلنوا الولاء. ولمَا كانت في حاجة إلى ذوي شطحاتٍ و حَضْرَة، تركوا السبحة واصطلحوا مع السياسة على حين غرَّة. وليت شعري متى اجتمع هؤلاء وأولئك وقد قال "المتسلفة" في المتصوفة ما لم يقله مالك في الخمر! ولا كانت في حاجة إلى "شمكارة" وقُطاع طرق، ولمَا كان أولو الأمر في حاجة إلى منابر الجمعة ليَصدحَ من فوقه الخطباءُ ببَيان سياسي، لم يخجل أصحابُه أن يقال فيهم إنهم يوظفون الدين لمآرب سياسية.
إن الأحداث في تسارع ودورة الفلك تتمُ ولو تخلف المتخلفون، فهل نكون في الموعد؟