قولوا لإخوتي الوطن بين أيديكم
ناديا مظفر سلطان
هذه الجملة كانت آخر ما نطق به الزعيم ابراهيم هنانو وهو يجود بأنفاسه الأخيرة
وابراهيم هنانو(1869-1935 ) هو زعيم الثورة ضد الانتداب الفرنسي على سوريا .
ومحاكمته لدى القبض عليه ، قصة فريدة من نوعها تستحق الوقوف طويلا أمام كل عنصر فيها ، من متهم ومحامي ونائب عام وقاضي وهيئة محكمة ،كل فرد من هذه المجموعة لم يكن لينقصه شرف أو تعوزه مروءة ، أو يفرط بأمانة ... في أداء متناسق ، وانسجام عجيب .
و هنانو من مواليد بلدة كفر تخاريم في محافظة ادلب غربي حلب وقد أطلق شرارة الثورة ضد المستعمر عندما حرق أثاث منزله قائلا (لا أريد أثاثا في بلد مستعمر)
تبدأ القصة عندما قبض عليه الإنكليز في القدس وقدم إلى محكمة الجنايات الفرنسية بتهمة الإخلال بالأمن والقيام بأعمال إجرامية ، وحكم عليه أربع أحكام غيابية بالإعدام ، من قبل محكمة الجنايات العسكرية التابعة للاستعمار الفرنسي.
العقبة الأولى والأكثر مصيرية في القضية ، كانت في اختيار هنانو لمحامي يدافع عنه . ولما احتار في أمره لجأ إلى خصمه النائب العام الفرنسي كي يدله ! واستحلفه" بشرفه العسكري" أن يختار له محاميا! وكأنه هو المتهم أي أن يضع نفسه مكانه! ، فقال له النائب العام الفرنسي( لو كنت مكانك لاخترت المحامي فتح الله صقال).
لدى تسلم الصقال مهمة الدفاع عن هنانو، مكث الاثنان قرابة ساعتين ، يتبادلان الأحاديث والمعلومات. وبعدها صعد الصقال إلى مكتب النائب العام وشكره على ثقته فقال له النائب الفرنسي(إذا وفقك الله وانتصرت علي فسأكون أول من يهنئك)!
استمرت المحاكمة عشرة أيام ، وفي إحدى الجلسات التي كانت تعقد صباحا ومساء قال رئيس المجلس العرفي ل هنانو: إن الشعب لم يطلب منك إعلان الثورة . وبدون إذن من الرئيس وقف سعد الله الجابري وقال "إننا نحن الذين طلبنا من الزعيم هنانو مقاتلتكم ، ونحن لن نتخلى عن مقاتلتكم مادام فينا وطني واحد ، حتى تخرجوا من بلادنا".
وفي الجلسة الأخيرة قال النائب العام الفرنسي (لو كان لإبراهيم هنانو سبعة رؤوس بعدد جرائمه السبع لطلبت إعدام رؤوسه السبعة )!
أطلق سراح هنانو بعد أن حكمت المحكمة العسكرية الفرنسية ببراءته من كل التهم الموجهة إليه ، وكان بانتظاره ما يزيد عن ثلاثين ألف من المهنئين فتعذر على المحامي الصقال أن يشق طريقه بين الجموع البشرية فحمله الشيخ رضا الرفاعي وأوصله إلى السيارة.
عندما خرج هنانو من سجن( خان استانبول) في حلب-مسرح الأحداث- كان بانتظاره هو والمحامي الصقال عربة ذات حصانين ولكن الجماهير حلت الحصانين وراحت تجر العربة إلى دار هنانو
في اليوم التالي لصدور البراءة ، توجه جمع من أقطاب الحركة الوطنية مع الزعيم هنانو إلى دار المحامي الصقال ، وقبيل انتهاء الزيارة ناول الشيخ رضا الرفاعي المحامي الصقال صرة من الحرير فيها ثلاثمائة ليرة ذهب مقدمة من الحاج فتحي المرعشي -صديق هنانو الحميم- شكرا منه وعرفانا بجهوده
وأخيرا تنتهي هذه القصة بما يسميه المؤرخون -السر المباح- ، لدى زيارة أحد أعضاء المحكمة العسكرية، ويدعى (لوكلير) المحامي الصقال، بعد انتهاء المحاكمة بعشرة أيام .
قال له أنه سيغادر إلى فرنسا فورا لأن الحكومة الفرنسية غضبت عليه وعلى اثنين آخرين من أعضاء المحكمة بسبب تبرئة هنانو.
هذه القصة من تاريخ الثورة السورية ضد فرنسا تبدو غريبة مقارنة مع أحداث الثورة السورية اليوم
فالنائب العام الذي تمنى أن يعدم هنانو سبع مرات هو الذي أرشده إلى المحامي الذي سيبرأه لأنه لم يستطع أن يحنث بشرفه العسكري ! بينما الشرف العسكري لقائد القوات المسلحة السوري اليوم لم يمنعه أن يوجه مدافعه إلى صدور السوريين العزل في انتفاضتهم سلمية.
وأعضاء المحكمة الثلاث الفرنسيين خسروا مناصبهم وعادوا إلى وطنهم لأنهم نطقوا بكلمة حق ! بينما لاتزال فئة من التجار والمنتفعين من عصابة الأسد يشيحون بوجوههم عن جرائمه من اغتصاب للنساء و قتل للأبرياء والأطفال وتمثيل بجثث إخوانهم من أبناء الشعب السوري خشية أن تتعطل مصالحهم. فالثورة السورية اليوم -حسب عزمي بشارة- هي ثورة فقراء.
والقاضي الفرنسي الذي حكم بالبراءة ...رفض أن يصافح هنانو بعد الحكم، لأنه استطاع خارج المحكمة أن يعبر عن بغضه ل هنانو (لا أستطيع أن اصافح رجلا يداه ملوثتان بدم الفرنسيين )ولكن داخل المحكمة كان رجل قضاء لا يحكمه سوى الضمير وشرف المهنة!
أين الضمير وشرف المهنة لأصحاب المناصب في سوريا ، من مجلس شعب ووزراء ومدراء مؤسسات وخطباء جوامع ؟
أما مسرح أحداث هذه القصة فهو حلب المدينة، الأقل مشاركة اليوم في المظاهرات السلمية ضد النظام القمعي الفاسد ، الذي عانت منه سوريا أربعين عاما .
وشعب حلب بمعظمه يميل إلى إحكام العقل أكثر منه للانقياد للعاطفة ،وقد قدم الكثير من التضحيات منذ ثلاثين عاما لأن الانتفاضة ذلك الوقت كانت تتسم بطابع إسلامي ، والحكم المرجو بعد نظام الأسد هو إسلامي .
قالت لي غيثاء من حلب : الرؤية للمستقبل ضبابية ، لذلك فالتضحية اليوم ليست مضمونة النتائج للغد
وحلب اليوم منقسمة بين تاجر منتفع يخشى على مصالحه ، وبين متحفظ ليس بضامن للنتائج - كما أفادت غيثاء - ولهذا السبب فالمشاركة في الثورة ، ليست على مستوى بقية المحافظات .
والثورة الآن أصبحت ذات هدفين على خلاف ما ابتدأت.. في البداية كانت مطالبة بإصلاح الفساد المستفحل في البلاد "ومن رأى منكم منكرا فليدفعه بيده فمن لم يستطع فبلسانه فمن لم يستطع فبقلبه وهذا أضعف الإيمان" ، أما اليوم وبعد المجازر التي حصلت بحق الأبرياء ومنذ أن اهدرت أول نقطة دم وسقط أول شهيد ، فقد تجاوزت الثورة الهدف الأول من إصلاح إلى الثاني وهو نصرة المظلوم وكف القتل عن الأبرياء " مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر"
والله سبحانه يحاسب الإنسان على العمل ، أما النتيجة فشأن آخر وأمر موكل إلى الله "ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء"188-7
والسؤال الذي يفرض نفسه: ترى لو كان إبراهيم هنانو ومن معه من ثوار، يعلمون أن الوطن الذي بذلوا من أجله كل غال ونفيس ، سيرثه نظام مجرم ، يعيث فيه الفساد من سرقة وقتل وتمثيل واعتقال واغتصاب ، ترى هل كانوا سيستمرون في الثورة؟
ولو كان عمر المختار يعلم أن بلاده التي ضحى لأجلها بحياته ، سيرثها مجرم آخر ومعتوه ، يدمرها ويقتل شعبها ويصفه بالجرذان ،ترى هل كان سيفرط بحياته لو كان يعلم ذلك؟
والنبي محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم يجيبنا على هذا السؤال عندما عمل ثلاث وعشرين عاما حتى أدى الرسالة بالتمام والكمال ، وهو على ثقة أنه يراهن على فئة واحدة من بين سبعين ونيف فقط وهي التي ستتبع منهجه.
والقانون الإلهي أن العبرة في العمل ، والقيمة في النوايا ، والنجاة في سلامة القلب .
والله أمرنا "وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون"105-9
أما النتيجة فهي حكم إلهي ولاحول ولا قوة لنا أمامه " والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لايعلمون"21-12
والشعب السوري اليوم في حال من الوعي والقدرة على السير بركب الثورة الى بر الأمان وإلى حكم ديمقراطي يوفر الكرامة والحرية للشعب بكل فئاته ، مزود بإرث عظيم القيمة ، وتاريخ مشرف ، وقصص وملاحم رائعة ، كقصة محاكمة هنانو، التي يحفها الصدق ، ويغشاها الشرف، ويكللها الإخلاص و يؤطرها الحب الخالص للوطن ، فالمسلم يحمل المسيحي بين ذراعيه ... والمسيحي يدافع عن المسلم دون أن ينتظر الأجر...
وحب سوريا يوحد العزائم ويرص الصفوف... ويحقق المستحيل
وتبقى وصية هنانو وهو يصارع سكرات الموت إلى إخوانه في حلب أمانة في عنق كل فرد منهم من منتفع ثري ، أو معدم فقير، من مسلم أو مسيحي ،من شيخ أو راهب
"يا إخوتي الوطن بين أيديكم"
ويبقى الحكم بالبراءة على هنانو بعد أن كان حبل المشنقة منه قاب قوسين أو أدنى ، سلسلة من معجزات حقيقية ، من موقف النائب العام الذي أرشده إلى المحامي، ومن حكم القاضي الذي حاول أن ينسى ، لحظة إعلان البراءة، أن هنانو ملوث اليدين بدماء الفرنسيين ، ولم يتذكر إلا صوت الضمير المهني ، ومن تضحية الأعضاء الثلاث بمناصبهم لأجل براءته.
بحثت مليا على مفتاح هذه المعجزات المتتالية ولم أجد سوى تفسيرا واحدا في كتب التاريخ ، عندما قرأت عن هنانو أن أتباعه أطلقوا عليه لقب (المتوكل ) بسبب قوله ( توكلنا على الله) ، كلما ذهب مع قواته للإغارة على الفرنسيين .
إلى أبطال الثورة السورية ، ضد القمع والظلم والفساد ، إلى أبطال سوريا اليوم عليكم بمفتاح المعجزة الذي لم يفارق البطل الحلبي ابراهيم هنانو:
" ومن يتوكل على الله فهو حسبه إن الله بالغ أمره قد جعل الله لكل شيء قدرا "3-65