لا نخاف الطائفية ولا التلويح باستخدامها
جلال / عقاب يحيى
المذاهب نتاج القرون، جزءاً من تشكيل اللوحة السورية الغنية التي أبدعت، وتعايشت، وتفاعلت على مرّ القرون، فأنتجت الخصب، ولوّنت بلادنا بالغنى الفوّاح.. عبر التعايش والتفاعل، وعلى قاعدة : الدين لله والوطن، والمذاهب للجميع، حين ظلّ الوطن هو الجامع، وهو الإطار الأقوى، والانتماء، والهدف ..
ولم تك يوماً مثارة كإشكال، أو كحراب للاستخدام والترهيب والتجييش، إلا عندما حولها نظام الأسد الفئوي، النرجسي، الاستبدادي، الوراثي إلى دمّلة يعتقد أنه قادر على ملئها بما يريد من صديده، ثم يتحكم بها ويلقي بما في داخلها لتشويه الوجه الحضاري لبلدنا، ولثورة الشباب ـ الشعب، أو إغراق البلاد باحترابها . .
النظام، ومنذ الأيام الأولى لانتفاضة ـ ثورة الشباب ـ الشعب، وعلى لسان بثينته، ورئيسه أراد اللعب والتلاعب بالطائفية فكان وصف ما يجري ب"الفتنة"، حالة مدروسة للتلويح الضمني والسافر بقادمهم، ومحاولة لتجييش رأي عام شعبي يعتقد النظام أنه في جيبه، وأنه هو " الممثل الشرعي، الوحيد، الأبدي للطائفة العلوية( ناسياً، أو جاهلاً أنه بذلك يفضح ماهيته، وأنه يعرّي كل شعاراته الاستخدامية ويقدّم نفسه كنظام طائفي، وفقط، إلى درجة يتجاهل فيها تزويقاته الأخرى، وتحالفاته مع أشقائه من لصوص المافيا ورجال الدين المعلبين( من عموم الطوائف، خاصة من السنة)، وتجار عهده المكلوبين، وديكوراته، وحزبه، وجبهته، وكل زاده التسويقي الاستعراضي ..
وحين تطور دجلهم الممسرح إلى الزجّ (بحلقة) السلفية (قبل حلقة العصابات المسلحة).. كان شبابنا الواعي، وعبره شعبنا الثائر يردّ عليه بشعارات حضارية راقية عن الوحدة الوطنية ووحدة الشعب، وعن الدولة المدنية الديمقراطية : بديله، وفي إدانة أي مظهر، او تصريح، أو فعل طائفي منعزل، أو كرد فعل منفلت.. فتاه تكتيكه وداخ في لعلعة الرصاص، وعدد الشهداء، والمعتقلين، وفي ثبات الشعب وتصعيد خطابه ومطالبه .. ورفس دعاويه، وخطاباته ووعوده الموعودة ..
ـ وحين دخلت سلمية على الخط بتنوعها السياسي والمذهبي، ولونها الخاص، ودخلت عناصر كثيرة محسوبة على الطائفة العلوية ميدان التظاهر والحراك والأنشطة، وعديد المسيحيين، ثم تقاطر المثقفين والفنانين : مطراً مبشّراً بالخير العميم..
وحين ضجّت حماة فعزفت نواعيرها لحنها الأصيل..وخرجت عن بكرة أبيها وهي تفقأ عيون سياساته، وحين أمسكت حماة أعصابها، وردّت بأرقى أشكال الوحدة الوطنية، والتحضر على محاولاته المكشوفة في نكئ الجراح ..طقّ مجون النظام، فأخذ يحرّك ما تبقّى في جعبته من أوراق، ليخرج منها أكثرها خطورة : الطائفية..وبظنه أنه يلقي بثقل التحضير في وجه الثورة فيشوّهها، أو يغرقها ..
*****
ـ نحن نعرف أن ليس جميع شعبنا وشبابنا من(الأنبياء)، أو النخب الواعية، المنتقاة، أو ممن يضعون على طول الخط، وحتى عند فورة الدم، وحالات امتهان الكرامة، الوحدة الوطنية فوق مشاعرهم الفوّارة، أو اندفاعاتهم وردود أفعالهم المباشرة على عمل من طبيعة جرمية لئيمة، أو تصرف شبيّح قذر يقوم بالقتل المباشر، وفعل الإهانة والتهدي على الكرامة، والشرف وغيره، فهناك كثير من الشعبيين، وحتى المتعلمين محقون بيئوياً، ووعيوياً، أو بحكم عوامل تشويهية مختلفة، ويمكن إثارته، أو تجنيده ودفعه لبعض ردود الأفعال الكريهة، والخطيرة الوقع، خصوصاً وأن النظام يوظفها بقوة وينشرها كفعل عام لإدانة الثورة، وطمس وجهها الناصع.
ـ بالمقابل فإن دعايات النظام المركزة(العلنية والخفية، المباشرة وعبر أقنية وأشكال كثيرة) على (الوجه السني) للثورة يمكن أن تدفع البعض من الشعبيين في الطائفة العلوية للتصديق بأن ما يجري خطراً على (الطائفة، ومصيرها، ومستقبلها)، هذا عدا عن وجود مليشياته المعروفة وجهازه الأمني المبرمج، وأزلامه، ومرتزقته، ومناصريه، وفيهم نسبة لا بأس بها من الطائفة العلوية.. والتي يمكن أن تقوم، بتدبير وأوامر ومخططات معطاة لها، ببعض الأعمال التفجيرية هنا وهناك ونسبها لشباب الثورة كي تختلط الأوراق، ويشتعل الفتيل، وليس بغريب أن يقوم هؤلاء بقتل شباب ينتمون للطائفة العلوية، أو حرق ممتلكاتهم، والاعتداء عليهم ونسب ذلك إلى الآخر(السني)، والترويج المنهج لهذه القصص ونشرها على أوسع نطاق، بالترافق مع عمليات تسليح مسبقة، ومستمرة لشباب(علوي)، ولبعض القرى العلوية، ودفع بعض الأدوات للقيام بفعل القتل والاعتداء على الآخر غير العلوي ..
ـ كما وجود احتقان في الأوساط الشعبية السنية التي تغذي بعضه ذهنيات متشددة، وخلفيات مشبوهة، ورجال دين محنطين، وبعض ردّات الفعل المباشرة على فعل القتل والامتهان، وبجاحة الشبيحة وأعمالهم المثيرة للمشاعر والكرامة، ودور بعض الفضائيات الدينية في الحقن المذهبي، وبعض الدوائر الغامضة التي تقوم بكل ما من شأنه تحمية المشاعر الطائفية عند الجميع..
جميعها يمكن أن تدفع إلى بعض الأعمال الطائشة، ناهيك عن عديد الكتابات، والشعارات، والخطب التي يجري استثمارها وتصويرها على أنها الثورة، وصميمها، وطابعها، وخلفياتها..
لكن، مع ذلك، فشعبنا بكتلته الرئيسة، وشباب الثورة الواعي جداً لموقع الوحدة الوطنية، وألاعيب ومناورات النظام، وغيره من الجهات .. يدرك بالملموس مخاطر اللعب بالطائفية، ويدرك أكثر وسائل إفشال نوايا النظام الحاقد، المأزوم ليردّها إلى نحره عبر التمسّك، أبداً، بالوحدة الوطنية، وبالحرية نظاماً تعددياً لا يقصي ولا يستثني أحداً، نظام الطيف السياسي والديني والمذهبي والقومي الذي تتشكل منه بلادنا ..ونظام المواطنة المتساوية في الدولة الحديثة التي لا مكان فيها لاستئثار أو اجتثاث، أو انتقام.
******
ـ نعم النظام في أوج أزمته، وقد سقطت تكتيكاته المرتّبة على صخرة صمود وبسالة الشعب السوري، ولم يبق له الكثير ليقع بالضربة القاضية الموجهة من الثورة، وليس من غيرها.. ولأنه من النوع المكلوب على السلطة، ولأن ملف آثامه كبير، ولأن الدماء لا يغسلها شيء غير محاكمته والقصاص العادل، ولأن صوت الشعب الواحد بإسقاط النظام بات هو الجامع، ولأن تصدّعات كبيرة أخذت بالبروز.. لم يبق لديه الكثير من الأوراق ليلعب بها، وهو يرفض التسليم بحق وإرادة الشعب، ومنها : الورقة الطائفية، وبذهنه المريض الذي يعتقد أنه عبر كم حركة مفتعلة، وكم تصرّف محسوب، ومُعدّ، أو باستثمار بعض الأفعال الطائشة، والتصريحات الهوجاء المنعزلة.. يمكنه أن يجند الطائفة العلوية خلفه، ويدفعها إلى المحرقة ..
ألا بئس نظام لا يتورع عن إحراق البلد كي يبقى في كرسي النهب والقمع والتسلط .. ألا بئس هذا النهج التدميري الذي سيكون الضربة القاضية لأصحابه..
ـ النظام ينسى، أو يتناسى أن الطائفة العلوية ليست ملكاً مطوّباً لبيت الأسد ومخلوف ومن جرّ جرّهما، أو كتيبة في نظام مرفوض شعبياً، وليست وقوداً لمخازيه ومحارقه، وأن تاريخها الوطني، وآلاف آلاف المثقفين والناشطين والمعارضين يرفضون هذا النظام جملة وتفصيلاً، ويعملون على تغييره في خندق المعارضة والقوى الثائرة، وأن الشعب السوري، وفي مقدمه أبناء الطائفة، أو المحسوبين عليها (لهذا الاعتبار أو ذاك) يضعون الوحدة الوطنية في حدقات العيون، ويدركون، قبل غيرهم، أي حريق يسعى إليه النظام، وأي مستقبل يريده للطائفة، والبلد.. بنواياه ومحاولاته.. وأن وعي الشعب السوري المتحضر، المنفتح.. سيقبر دعاة الطائفية والأحقاد من أية جهة، أو مصدر، أو خلفية كانوا، وأن ثورة الشعب السوري لا تستهدف الطائفة، ولا الطائفية، لأن النظام بكل وضوح، وإن كان تلونه طائفياً، وإن موضع الطائفية في مفاصل الدولة(خاصة في الأجهزة الأمنية والجيش)، والمجتمع، وإن غذّى ونمّى الاتجاهات الدينية في جميع الطوائف ، إلا أنه ليس ممثلاً للطائفة، وليس نظامها، أو المعبّر عنها، وأن أغلبيتها الساحقة ترفض سجنها في هذا القفص الكريه، وهي مطالبة بالالتحاق بالثورة وتعرية النظام، وإعلان الانفكاك عنه لأنه ليس منها، ولا وليدها، أو حامي حماها، ولأنها تعي جيداً موقعها في لوحة الوطن كركن رئيس من مكوناته لا تستقيم وحدة وطنية دون مشاركة الجميع على قدم المساواة، وفي لوحة الدولة المدنية التعددية الديمقراطية .
ـ بالمقابل لا بدّ من إدانة أي فعل طائفي من أية جهة جاء، ولا بدّ من فضح دعاة التطويف والثأر والانتقام والتشقيف والتكفير، والتصدي لهم، وعزلهم لأنهم لقطاء، وهجناء لا علاقة للثورة السورية بهم، بالتأكيد،، والتركيز الذي لا لبس فيه على الدولة المدنية الديمقراطية غير الدينية(وغير المذهبية بداهة)، ووضع حدود لعلاقة الدين بالدولة، وأفق ومفردات التعددية، وصورة سورية القادمة : سورية الحضارية، الحداثية التي تكرّس حرية الاعتقاد وحرية الاختلاف والرأي الآخر، والتداول السلمي على السلطة عبر التنافس الحر، والانتخابات المباشرة .
ـ والأكيد الأكيد وقد شبّت الثورة وتجاوزت الاختناقات الحرجة والصعبة، بنجاح واضح، وقد باتت شارات انتصارها تلوح لصناعة فجر آخر.. أنها وهي الأصيلة المؤصلة، نبت سورية الحضارة، والتاريخ، ووليدة الشباب المثقف، المنفتح على آخر مبتكرات الحضارة الإنسانية ومخترعاتها في ثورة الاتصالات والمعلوماتية.. ستكون قادرة على دحر عوامل الشدّ للخلف، أو الحرف، وستقبر الطائفية وكل تلاوين التخلف، ومعيقات التطور والتقدم.. وستقبر سياسات النظام الإجرامية في هذا الميدان شبه الأخير، مثلما قبرت نهج الوأد، والتشويه.. حين يرفع الشباب رايات سورية المشرقة المزدانة بألوان مكوناتها السياسية والدينية والمذهبية والقومية وغيرها.. في تناغم يعزف لحن الحياة، ليلتقي مع لحن الخلود لبلد الحياة والخلود ..
كاتب وروائي الجزائر