المعارضة السورية وأحوالها

جلال / عقاب يحيى

في مقال للأستاذ أكرم البني بعنوان : " نقد تقويمي مبكر للمعارضة السورية" يتناول فيه بعض مظاهر عوامل أزمة المعارضة السورية، وتمظهرها في عديد المواقف التي برزت بعد انفجار الانتفاضة ـ الثورة السورية، إن كان لجهة ارتباكها، أو لجهة بطء حركتها، أو لجهة عدم قدرتها على توحيد صفوفها ، وتعدد المبادرات، والمؤتمرات التي تعكس ذلك التباين.. إلخ ....

لقد تناولت، على مدار السنوات، في عديد المقالات والدراسات أزمة المعارضة السورية : البنيوية منها، والانعكاسية، والسيرورية، ومفاعلات الأزمة في داخل كل فصيل فيها، وعلى صعيد علاقاتها فيما بينها، ومع محيطها، والشعب، معتقداً أن عمق الأزمة أكبر من كل المحاولات الخجولة، والجزئية، وحتى الشجاعة لتجاوزها، باعتبارها باتت مزمنة، وقادت إلى الشيخوخة(وللشيخوخة أمراضها الكثيرة التي لا ينفع" ما يصنع الحداد بما يفعل الدهر") .. واعتبرت أن ثباتها على مبدأ المعارضة، والبقاء حيّة ولو بصوت ضعيف، وبدائرة تأثير صغيرة ومحدودة ، نوع من الإعجاز الذي يجب تقديره واحترامه .. لأن كومة الضغوط الثقيلة عليها : القادمة من نظام كلي، قمعي، ومن مفاعلاتها الداخلية، وطبيعة المرحلة التي امتدّت عقوداً، وبالتحديد : بعد مجزرة حماة 1982، كانت من القوة التي لا تصمد أمامها إلا القلة الصلبة المؤمنة بمواقفها وخياراتها، وهذا أمر آخر يجب أن يسجّل لها .

وحتى لا يكون جلد الذات هو التعويض الهروبي، كتبت مراراً عن غياب الرافعة الشعبية، أو رافعة تطور الأحداث باتجاه إيجابي التي يكمن فيها استمرار واستفحال الأزمة، وأنه لا مخرج منطقي دونها، طالما أن الحالة الشعبية لم تفرز بدائل سياسية، وطالما أن الوضع السوري في حالة استنقاع أشبه بالموت السريري، لذلك كان شعار الحفاظ على الذات (الذات الفردية، والذات الحزبية) مطلباً يقف دون تحقيقه الكثير من المنغصات والعوامل اليأسية، والتخبط، والتبطيل، والانفلاش، والكثير من الظواهر التي تدفع إليها سنوات الجزر، والانحسار ...

وبقدر ما كانت الأمنيات بواجب وحدة عمل المعارضة، والبعض كان يُبدي استغرابه لازدياد فجوة التشتت والخلافات، بقدر ما كان التحليل الموضوعي يعتبرها نتاجاً طبيعياً لحالة الانسداد، وفقدان الأمل، وضعف الثقة بالجدوى، ناهيك عن التغيير ..

ونعرف أن هذه الحالة التي استمرت عقوداً، وعرفت بعض (الحراك) التفاؤلي بعد عملية التوريث الجهنمية.. أدّت إلى تولّد ذهنية انتظارية تراهن على قابليات(مفترضة) لدى الوريث ونظام الوراثة ببعض الإصلاحات، فتدنّت السقوف وهبطت إلى مستوى مضطرب، خاصة في الفترة التي أُطلق عليها " ربيع دمشق" والتي لم تكن برأيي سوى مناورة محسوبة، مقررة من النظام لتسويق عملية التوريث، وبلبلة الشارع والمعارضة، في حين أن فهم جوهر وخلفيات التوريث كان يعني أنه يستحيل على تركيبة معروفة لنظام أحادي ـ أمني ـ أقلوي ـ عائلي ، نهبي ـ فاسد.. أن يُقدم على أية خطوات إصلاحية جدّية لأنها ببساطة ستتناول(الخطوط الحمر) التي جاء التوريث لمنع الاقتراب منها، ولأنها بداية انهيار ركائز النظام الأساسية .. فتمّ اغتيال تلك الفترة القصيرة لتعود" ريما النظام إلى معهودها" ..

****            

وحين (فتحت طاقة القدر) أفقاً يحمل إمكانية التغيير، إثر اغتيال الحريري، ومرحلة المحقق ميليس وتقاريره، واتهاماته، وحراك الشارع اللبناني، بالتناغم مع حركة دولية ضاغطة(تبيّن أن سقفها لا يصل مستوى القرار بإسقاط النظام، وإنما تعديل سلوكه)، وانشقاق عبد الحليم خدام، ومقتل اللواء غازي كنعان بتلك الظروف المليئة بالملابسات والقصص، والخلفيات، وتلبّد الأجواء حول النظام.... نجحت معظم أطراف المعارضة، وبشل نوعي مبّشر، في إنهاض جبهة تحالفية عريضة (إعلان دمشق)، ضمّت، للمرة الأولى الإخوان المسلمون وعديد الأحزاب الكردية، وطيفاً واسعاً من الناشطين والمستقلين، بالإضافة إلى القوى الوطنية القومية واليسارية.. وكان ذلك إنجازاً كبيراً، وانعطافياً بحدّ ذاته، رغم الانتقادات العميقة للميثاق وما تضمنه من ترقيع وغموض وفضفضة، ورغم كثير السلبيات في التشكيل والمؤسسات وغيرها(سبق وكتبت حوله عدداً من المقالات النقدية والتقويمية) .. وبما فتح الطريق لوجود بديل مجموعي يمكن أن يكون رهان القادم الذي كانت كثير التباشير تدلّ عليه..

لكن اجتماع عديد العوامل والتطورات قادت إلى المراوحة، فالنزاع، فخروج بعض الأطراف منه، وبالتالي : العودة إلى المحورة، والانقسام.. وإن ظلّ الإعلان إطاراَ واسعاً، نجح، خاصة على الصعيد الخارجي في إقامة عديد المؤسسات الناشطة التي ضمّت أعداداً معتبرة من المعارضين والناشطين السوريين، ونجح، ولو بحدود، في الحفاظ على وجوده، وفي القيام ببعض الأنشطة، وإن كانت متقطعة ..

ولئن كانت معرفة أسباب أزمة إعلان دمشق، وما جرى له مهمة، خاصة لمن لا يعرفها، أو لمن لا يريد الاعتراف بها، فإني أعتقد أن رحيل غيوم التعيير الكثيفة دون أن تحمل معها ما كان مأمولاً.. يعتبر الخيمة العامة التي جرى فيها وتحتها ما جرى..

لقد أكدت الأحداث أن القوى النافذة في القرار الدولي، وأخصّ منها : الصهيونية العالمية ومدى تأثيرها على الإدارة الأمريكية، حتى في عزّ اندفاع المجرم بوش الابن و"المحافظون الجدد" لا تريد تغيير، أو إسقاط النظام(لحساب استراتيجيتها، وبغض النظر عن علاقة النظام بها)، وإنما أقصى ما تريده هو " تعديل سلوكه" وإضعافه ليكون أكثر هشاشة ومطواعية .(كتبنا كثيراً في أسباب هذا الموقف)، وهو الموقف الذي ما يزال ـ حتى اللحظة ـ قائماً في الإدارة الأمريكية ومعظم عواصم الغرب .

وبالتالي فإن غياب الأمل بالتغيير القريب المحمول على ازدواجية تضافر العاملين : الداخلي والخارجي(ورجحان الفعل الخارجي).. أضعف من فعل تلك الرافعة، فترك أثره على المعارضة المأزومة.. وشكل ذلك المناخ العام لبداية أزمة الإعلان التي تفاقمت لاحقاً بتضافر عوامل أخرى ..

ولنا أن نتذكّر هنا : إجبار المحقق ميليس على الاستقالة، وتراجع وقع وحركية لجنة التحقيق الدولية(كانت هي الممر للتغيير)، وبما يدلل على أن صفقة ما عقدت، ومقتل غازي كنعان، ثم تبدد وعود خدام بالتغيير الموعود الذي ظنّ البعض أنه يحمله في جيبه، وعبر زمن لا يتجاوز بضعة أشهر، كما صرح بذلك علنياً أكثر من مرة، والذي دفع حركة الإخوان المسلمين للتخالف معه فيما يعرف ب"جبهة الخلاص"، إلى جانب عدد من الأحزاب الكردية، والمكونات المختلفة، والمستقلين.. والذي كان بمثابة الهزّة في موقف الإخوان الانفرادي، ومن إعلان دمشق .. دون إغفال مستوى المراهنة على فعل الخارج، وقناعة البعض بوجود قرار بالتغيير، وبدء التباين حول الموقف من الخارج، وحدود التعاطي معه ..

وبتلاقح هذه الأوضاع مع إشكالات ذاتية في التنظيم، وقيادة المؤسسات، والعوامل العصبوية والذاتية، وقصة انتخابات المجلس والأمانة العامة.. وغيرها من أسباب يختلف الأطراف في تفسيرها.. حدث الخلاف الكبير في الإعلان الذي أدى إلى خروج الاتحاد الاشتراكي العربي الديمقراطي، وحزب العمل الشيوعي، وعديد المستقلين، بينما حاول الإعلان استكمال مسيرته بمن بقي فيه..

****

لم يك أحد من القوى السياسية يعتقد أن الشعب السوري سينجح في التغلب على واقع الخوف، ومفاعيل العقود التي فرضت ثقلها على الشعب.. وحين فاجأ الشباب الجميع ، وحين أشعلت درعا الشرارة، وقادت الانتفاضة..كان على قوى المعارضة جميعها، وعلى الناشطين، والمستقلين..أن يستقبلوا وضعاً لم يجر الإعداد والتحسّب له، وهو ما يمثل تحدّياً كبيراً يفوق قدراتها الذاتية .

مع ذلك، وللإنصاف، فقد حاولت جميع القوى، وعديد الناشطين والمستقلين بذل أقصى ممكنها للحاق بالثورة (حلمها وقضيتها) عبر مواقفها المعلنة، وتأييدها المطلق للتغيير الديمقراطي، وعبر عديد الأنشطة ومحاولات التواجد والفعل..

غير أن إرث الخلاف وهو يزداد تعمّقاً من خلال تعدد وجهات النظر حول ما يجري(طبيعته وموقعه : حراك ـ انتفاضة ـ ثورة، وحول قواه، ومضامينه)، والأهم من ذلك : الموقف من النظام ، ومن عملية التغيير، ومقولة التطور السلمي، والتدريجي، والسلس، وغير السلس، والحوار، ورفض الحوار، في مقابل مواقف أخرى متشددة ترفض الحوار، وتذهب مباشرة إلى شعار إسقاط النظام كهدف رئيس لا مجال فيه لأي مراهنة على وعوده وعطاياه...

جميعها عوامل إضافية لبقاء عوامل الخلاف قائمة، والمرشحة للتزايد مع تعدد المبادرات، والمؤتمرات، ومحاولات بعض الأطراف الركوب على الثورة، أو محاولات الاحتواء، والتطويق (من الحب ما قتل) بإغراق الأنشطة بمؤتمرات لا ينتهي أحدها حتى يبدأ غيرها، ووجود روائح قوية تدلّ على آفاق مقايضات ما، واتفاقات قد تلوح في الأفق......وحكايا عديدة عن دخول قوى إقليمية ودولية على الخط، ومرحلة البحث عن البديل، وموقع ذلك مما تشهده الساحتين الخارجية والداخلية من مشاريع ومبادرات ومؤتمرات ودعوا لتشكيل هيئات وغيرها ..

ـ عدا عن العوامل الذاتية، والشخصانية، والحزبوية، والعصبوية، وموقع النخب من الميدان، وموقع الأحزاب من الشباب، ومدى قدرة المعارضة على الانضواء(وليس الوصاية) في حركة الشباب وتنسيقياتهم ليكونوا جزءاً فيها وليس فوقها، أو بديلها(مهما كانت الشعارات والموجبات)، وكثرة دعوات الترشيد، ونقد وضع التنسيقيات التي لم تتمكن حتى اليوم من توحيد صفوفها وبلورة إطار لها، عدا عن نقد بعض أطروحاتها وتصوراتها، وبما يُحدث نوعاً من الجفوة بينهما .

هذه العوامل الطبيعية تمنع وحدة المعارضة في إطار جامع، لكنها بالوقت نفسه تدفع إلى أن يتوجّه الجميع (كلّ وما يقدر، وكلّ من موقعه) إلى تقديم الرفد المتنوّع للثورة، بعيداً عن التناحر، وفتح المعارك الجانبية، والهامشية التي لا تعود بالفائدة على أحد .

إن توجّه كل الأطياف للتساوق مع شباب الثورة، وتنسيقياتهم، وتقديم ما يطلبون، بما في ذلك الخبرات السياسية والعملية، والترشيد، وتفصيح اللوحة السياسية الداخلية والإقليمية والخارجية، والمسارات والخيارات، والمآل....إنما يشكل إسهاماً كبيراً، وعملياً في الثورة، والذي عبره ستجد كافة قوى الثورة نفسها في الخندق الواحد، يوحدها المصير، والمعركة الطويلة.. وحينها يكون اللقاء طبيعياً، وحينها يكون الفرز حقيقياً، وحينها تصعد المعارضة إلى مرتبة الحيوية، والقابلية على الحياة ومواكبة التطورات ..وحينها يمكن أن تتوحد حول برنامج التغيير والمرحلة الانتقالية لما بعد النظام، وليس عبره أبداً ...

كاتب وروائي ـ الجزائر