حوار تحت الحصار
م. محمد حسن فقيه
لعل النظام السوري اقتنع أخيرا ولو مبدأيا – لسبب أو لآخر - أن القمع الوحشي الذي واجه به مظاهرات الإحتجاج في سورية المطالبة بداية الثورة بالحرية والكرامة والعدالة ليس حلا ناجعا ، بل قد ساهم في امتداد الحراك الشعبي أفقيا وعموديا كما ونوعا ، وانتشرت المظاهرات ليصل عددها إلى مئات المناطق في أيام الجمع وتغطي جميع محافظات ومدن وريف وبوادي سورية ، ويصل تعداد المتظاهرين الذين خرجوا يتحدون الموت بصدورهم العارية بالملايين ، كما كسبت هذه المظاهرات الرأي العام الشعبي العربي والإسلامي والعالمي ، ضد فاشية النظام ونهجه الاستبدادي وأسلوبه الهمجي في التصدي للمظاهرات السلمية ، المطالبة بتحريرها من نير الذل والعبودية ، ومعبرة عن توق الشعب إلى حياة كريمة يستشعر فيها المواطن انسانيته المصادرة ويسترد حقوقه المسلوبة .
ارتفعت الأصوات المنددة بجرائم النظام بسبب قمعه الوحشي ، ورفع المتظاهرون سقف مطالبهم منادين بإسقاط النظام ، تزامنا مع ارتفاع وتيرة قمع النظام وأجهزته البوليسية وسقوط قوافل الشهداء تلو الشهداء وتهجير الآلاف إلى دول الجوار هروبا من انتقام النظام وأساليبه الوحشية من البطش الغاشم والعسف الظالم ، ضد المواطنين العزل من شباب ونساء وشيوخ وأطفال .
أطلق النظام عن طريق بعض أبواقه وأزلامه دعوة للحوار ، والحوار الجاد بشكل عام هو الوسيلة الحضارية والسلمية لحل النزاعات وإنهاء الخلافات ، وردم الهوات ومد الجسور بين النظام والمواطن أو بين الدولة والشعب ، على أن يكون هذا الحوار جادا وينطلق من مبادئ وطنية ، لا يوجه لخدمة طائفة او مصلحة شلة أو إنقاذ عصابة ، أويوظف لتثبيت كرسي مهزوز ، أو في مناورة للتسويق السياسي للخارج وكسب الوقت لالتقاط الأنفاس وترتيب الأوراق ، أو يعمل على تجزئة المشاكل والمعوقات ومحاولة حل بعضها على حساب الأخرى، أو يتمخض هذا الحوار الصوري عن مسكنات ... لا بل مخدرات ، لا تعالج المرض بل تتركه يستشري ويستعظم كورم خبيث ، بعيدا عن الإعلام وعين الرقابة ، أو كجمر يتوهج تحت الرماد بهدف كسب الوقت ، إلى أن تحين الفرصة للإجهاز على الثورة وكتم أصوات الشرفاء المنادين بالإصلاح والحرية .
إن النظام الذي يريد حوار شعبه عليه أن يمهد الطريق أمام العوائق التي تعترض هذا الحوار، وأن يثبت حسن النية بمقدمات تسبق هذا الحوار أمام شعبه .
النظام الوطني لا يفكر في غالب ومغلوب ، لأن المحاور هم أبناء الوطن والمستفيد من هذا الحوار هو الوطن ، إلا في حالة كون النظام يعتبر المواطنين عبيدا في مزرعته التي ورثها من أبيه ، وسماها باسمه بعد أن سحق هؤلاء العبيد وصادر أملاكهم وطمس أسماءهم وعناوينهم وتاريخهم وحقيقتهم ، ويتعامل معهم كجراثيم وجرذان ! .
إن من متطلبات الحوار الناجح أن يعترف المحاور بحقوق خصمه الذي يحاوره ، ويقر به كشريك معه في المسؤولية والوطن ، دون أن يزاود عليه ، أو يدعي تفضله عليه بنثر بعض الفتات من صلاحياته الواسعة المطلقة ، ويمنّ بها عليه ، معتبرها تفضلا منه ومنة !
لا يمكن أن يبدأ الحوار بداية سليمة بين طرف أعزل بعيد عن السلطة ، وبين طرف مسؤول يشهر السلاح ويهدد به الطرف الأخر ، لإجباره على القبول بحلول ترقيعية ومعالجات جزئية ، يدعى بعدها النظام اكتساب الشرعية وتحقيق مطالب الشعب .
لا يمكن أن ينجز حوار ناجح في ظل حصار مفروض من طرف قوي ضد طرف أخر أعزل ولو كان يمثل غالبية الشعب ، مهما أوتي من قوة العزيمة ومضاء الإرادة .
إذا أراد النظام حل المشكلة بشكل حقيقي ، بحوار وطني جاد ، فعليه إيقاف آلة القمع والقتل والحصار والترويع والترهيب وسحب دباباته وعناصر أجهزته الأمنية وملحقاتها من العصابات المرتزقة كالشبيحة وأخواتها ، وإطلاق سراح جميع المعتقلين السياسيين ، والأهم من كل ذلك الحوار مع المعارضين الحقيقين الذين يمثلون أهداف المتظاهرين ويجسدون تطلعاتهم لحياة حياة حرة كريمة ، لا بين النظام ومن يصنعهم كمعارضين ولا يجدون لهم رصيدا بين الجماهير الثائرة ولا يمثلون أحدا خارج القاعة .
الحوار البناء يجب أن يكون بلا إستبعاد حزب أو إقصاء جماعة أو تخوين مجموعة ، بل يجب أن يكون الحوار مع شتى أطياف المعارضة الحقيقية مهما اختلفت مع النظام وكانت الهوة بينها وبين الظام شديدة والبون شاسعا ، فالحوار مع أنصاف المعارضين وأشباههم ... ومع أذناب النظام وصنائعه .. لن يحل الأزمة لا بل سيؤدي إلى تفاقم الأزمة واستعصاء حلولها والعودة بالأوضاع إلى المربع الأول .
إن الوقت يمر بسرعة وهو ليس في صالح النظام كما هوليس في صالح الوطن أيضا ، وإن محاولات الالتفاف على مطالب الشعب والتسويف لن ينجي النظام من فعلته ولن يخرجه معافى من أزمته .
قد يكون الحل الجذري بإصلاح حقيقي مع حسن النوايا ومباشرة التنفيذ ممكنا اليوم ، ويجنب البلاد مزيدا من الخراب والدمار والنزيف ويساهم في حقن الدماء ، إلا أن المماطلة والتسويف ومواقف الضبابية والغموض والالتفاف على مطالب الجماهير ، قد يؤدي في المستقبل القريب بعدم الإكتفاء بالمطالبة بإسقاط النظام .... بل لا بد من محاكمة النظام وأركانه ... ومحاسبة المتخاذلين ... وجميع المطبلين معه .
إن الحوار الحقيقي لا يمكن أن يكون تحت ضغوط الحصار، وإن الإصلاح البناء لا يمكن أن ينفذ بقوة القمع والتهديد ... والسلاح .
فلا حواريمكن أن يتم تحت الحصار، ولا إصلاح يمكن أن يتم مع التهديد بالسلاح .