الجزيرة والثّورة
صلاح حميدة
"كل هذه المشاكل من علبة الكبريت هذه" .... بهذه الكلمات علّق الرّئيس المصري السّابق حسني مبارك لدى زيارته لمقر قناة "الجزيرة" الفضائيّة في الدّوحة في تسعينيّات القرن الماضي، بعدها زادت حدّة الخلافات بين النّظام المصري وبين قطر -حاضنة الجزيرة- وبين "الجزيرة" المؤسّسة الإعلامية نفسها كذلك، وتمّ شنّ حملات إعلامية كبيرة على القناة ومن يقفون وراءها، بلا طائل، وتحالفت غالبيّة الأنظمة العربيّة ضد القناة، وعملت قدر ما تستطيع لمنعها من الإستمرار في سياستها الإعلامية التي لعبت على المكبوت السّياسي لدى العرب، بينما لعب غيرها على المكبوت الجنسي بقنوات للخلاعة تعمل على مدار السّاعة.
عملت (الجزيرة) تحت شعار " الجزيرة منبر من لا منبر له" وتحت شعار "الرّأي والرّأي الآخر" وهذه شعارات جالبة للمشاكل في واقع مشبع بالإستبداد والفساد والعمالة للغرب، ولذلك واجهت "الجزيرة" مشاكل وعثرات، و إتهامات ومبالغات، وواجه مراسلوها ضرباً واعتقالاً وملاحقات، قتلاً وتشويهاً وإغراءات لخيانتها والتّجسّس على زملائهم.
فتحت "الجزيرة" أبوابها أمام ما كان يعرف بالحالة الثّوريّة في العالم العربي، فأفردت مساحات واسعة لأصحاب الفكر على اختلافاتهم، من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، ومن المطالبين بالإستبداد إلى الدّاعين للحرّية، من المتديّنين إلى غلاة العلمانيّة، من المقاومين ومن عرفوا بالإرهابيّين إلى المحتلّين والمستعمرين، من المستبدّين إلى المواطنين المقهورين المطاردين، جمعت "الجزيرة" كل تلك التّناقضات في حالة ثوريّة إعلاميّة لم يسبق للإعلام العربي أن عاشها، وقامت بدور رائع في إثراء الحالة الفكريّة والسّياسيّة العربيّة، وأجبرت المستبد الّذي يسكن في عقول وأجساد وقلوب الكثير من العرب على مشاهدة ومحاورة نقيضه رغماً عنه.
هاجم "الجزيرة" الكثير من الّذين لم يعجبهم خطّها التّحريري، ولكنّهم كانوا - ولا زالوا- يتراكضون لمقابلة على شاشتها، أو لمداخلة عبر أثير قناتها، فيما حظي المظلومون والمقهورون والمضطهدون - من الأفراد والتّنظيمات المقاومة للإحتلال والإستعمار- لمنبر يقولون من خلاله كلمتهم وفكرتهم وتفسيراتهم، ولم يعودوا بلا منبر إعلامي، وفتحت لهم أبواب العالم عبر "الجزيرة" وهذه حقيقة لا ينكرها إلا جاحد.
الأنظمة العربية والإسلاميّة التي كانت تنسب نفسها للجماهير وللحالة الشّعبيّة الثّوريّة، حظيت بمنبر إعلامي لا مثيل له لتقول من خلاله كلمتها، فإعلامها المتحجّر لم يكن باستطاعته طرح وجهة نظرها كما كانت تقدّم عبر "الجزيرة" أمّا الأنظمة التّقليديّة وبعض من عرفت نفسها بالثّورية، فقد عملت على فعل كل شيء لمنع "الجزيرة" من تأدية رسالتها، وأنشأ بعضها فضائيّات لمنافستها، في حين فكر جورج بوش بقصف مقرّها في الدّوحة، بعد أن قصف مكاتبها في أفغانستان والعراق.
شكّل ربيع الثّورات العربية مفصلاً هامّاً في مسيرة "الجزيرة" الإعلاميّة، فقد لعبت الجزيرة دوراً مهمّاً في تغطية الشّأن الثّوري في تونس ومصر بدايةّ، وهذا جلب غضب النّظامين عليها، ولكن نجحت الثّورة في نهاية المطاف، بعدها تفجّرت الثّورة في كل من اليمن وليبيا والبحرين وسوريا، تباطأت "الجزيرة" في بداية الثّورات جميعها في التّغطية، ولكنّها كانت تضع ثقلها في تغطيتها بعد ذلك، فقد يكون ذلك ببالغ الحذر والتّأكّد من استمرارية الفعل، أو لكون بعض الثّورات قامت في دول كانت لوقت قريب أقرب الأقربين للجزيرة، ولكن في الحالات السّابقة كانت "الجزيرة" تهاجم من تلك الأنظمة، قبل أن تبدأ بتغطية أخبار الثّورات، وبعدها، ويؤخذ على "الجزيرة" عدم تغطيتها لأخبار الإحتجاجات في البحرين بشكل يماثل نظيراتها في دول عربيّة أخرى، بل يتمّ اتهامها أنّها تحابي الملكيّات وتستهدف الجمهوريات، وتتّهم بأنّها جزء من حالة استهداف وتآمر من قبل الغرب والدّولة العبريّة ومجموعة من الإسلاميّين وبعض الأنظمة الملكيّة العربيّة، بل تتّهم بفقدان المهنيّة في تغطيتها للأحداث الجاريّة، وتركيزها على رأي واحد، بل بالمشاركة في توتير الأوضاع هادفةً لمنع الحلول الوسط، من خلال تهييج الجماهير، ووتتّهما بعض الأنظمة المتحالفة مع أمريكا وإسرائيل بأنّه عبارة عن بوق للحركات الإسلاميّة والقاعدة وهي سلاحهم للسّيطرة على العالم العربي.
الإتهامات السّابقة تتّهم بها "الجزيرة" من قبل طرفي نقيض العالم العربي، فمن صفّقوا للجزيرة في أدائها فيما يخصّ تونس ومصر واليمن وليبيا، على سبيل المثال، أزعجهم أداؤها فيما يخصّ سوريا والبحرين، والعكس صحيح، فيما تجاهل أدعياء استهدافها للجمهوريات أنّها تغطّي ما يحدث في المغرب من حركة احتجاجات، وأنّها تفرد مساحات واسعة لرافضي التعديلات الدّستوريّة، بل تقوم بتغطية الشّأن الأردني - على محدوديّة نشاطه- ونقلت ما جرى في العراق - من شماله إلى جنوبه أيضاً، ويتجاهلون منعها من التّغطية الإعلاميّة الواقعيّة للمشهد كما هو على الأرض، بل يمتنعون عن المشاركة في برامجها، فمن يقوم بذلك يكون هو العامل الرّئيسي في منع الجزيرة من تغطية ما يجري بموضوعيّة، وهو الّذي يسعى لمنع الجزيرة من نقل الواقع الّذي يدينه بشكل لا لبس فيه. كما ينسى هؤلاء أنفسهم، فهم يمتلكون وسائلهم الإعلاميّة التي انحدرت لدرجة كبيرة من الكذب والدّجل والتّحريض على قتل الجماهير، بل وصلوا لحالة من الإنكار لما يجري على الأرض، وينفون الآخر بشكل تام، فيما يتّهمون الجزيرة بانّها غير موضوعية، ولا تتمتّع بالشّفافيّة المطلوبة ( أتأمرون النّاس بالبرّ وتنسون أنفسكم).
لا يمكن فهم ما تقوم به "الجزيرة" دون فهم السّياق الّذي نشأت فيه، ودون فهم سياستها التّحريريّة التي تقوم على مبدأ الإنسجام مع الحالة الثّوريّة في الإعلام والواقع العربي، وهي بالتّالي منسجمة مع ذاتها ورسالتها، ولم تأت فعلاً منكراً، وما تقوم به ليس إلا امتداد لما كانت تقوم به سابقاً، ولكن في الوقت الّذي كان هناك من ينسجم مع الحالة الثّوريّة التي تنتهجها "الجزيرة" وكانت تسمح له تلك الحالة بتسيّد مشهدها، والبقاء نجماً على شاشتها، كانت "الجزيرة" جيّدة وممتازة وثورية ومناضلة، بينما كانت تلعن صباح مساء من قبل الأنظمة التّقليديّة، ولكن في حالة الثّورات العربيّة ضدّ الإستبداد والفساد، وهو مشترك بين غالبيّة الأنظمة العربيّة، الثّقليدي وغير التّقليدي، فقدر "الجزيرة" أن تنحاز للحالة التي نشأت فيها وانتهجتها كمسار لها، فهي منحازة تلقائيّاً للحالة الثّوريّة الشّعبيّة، وفي الوقت الّذي اتّحد فيه المستبدّون من ملكيين وجمهوريين وطائفيين من السّنة والشّيعة، ومن عرب وغير عرب، وبدأت المقايضات من تحت الطّاولة لوأد الثّورة العربيّة، وفي الوقت الّذي اتفق هؤلاء جميعاً على وضع كافّة إمكانيّاتهم وثقلهم لفرملة مسار الثّورة الشّعبيّة العربيّة، وفي الوقت الّذي يصبح فيه ما كان يوصف بالإعلام ( العبري) أو ( العبريّة) مرحّباً به في عواصم الثّورة والمقاومة، ويتمّ زجر وطرد ومهاجمة ما كانت توصف بمنبر المقاومة والمقاومين ( الجزيرة) لانحيازها للحالة الثّوريّة الشّعبية، لا يمكن للجزيرة أن تعود عن سياستها التي أنشأت من أجلها، وألا تنسجم مع تكوينها وبنيتها ورسالتها، فالموضوعيّة على طريقة ال بي بي سي، لا مكان لها في الوقت الّذي تذبح فيها الشّعوب من الوريد إلى الوريد، وسط تغييب واضح للإعلام عن مشهد المذبحة، ففي مثل هذه الحالة تتنازل وسائل الإعلام الحقّة عن جزء من المهنيّة في سبيل نقل ما يجري خلف السّتار الّذي يصنعه المجرمون والقتلة، هكذا كانت "الجزيرة" في حرب أفغانستان، وفي حرب العراق، وفي حرب لبنان، وفي الحرب على غزّة، وليس مطلوباً منها أن تتغاضى عن مشهد القتل حسب جنس وطائفة وعرق وتصنيف القاتل والمقتول.
الجزيرة نشأت في صحراء إعلاميّة مقفرة، وشكّلت مرآة للعرب، تريهم سوءتهم التي لا يريدون رؤيتها، تواجههم بواقعهم السّيء الّذي يريدون التّفكير فيه، فالجزيرة توأم الثّورة الشّعبيّة العربيّة، والجزيرة لم تتغيّر، ولكن هناك من تغيّر وغادر مقعده الطّبيعي بين الجماهير، لينضمّ إلى مقاعد القوى الرّجعيّة الظّلاميّة التي لا تريد خيراً لا للعرب ولا للمسلمين، فثورة الشّعوب لا يمكن أن تكون في غير صالح الأمّة.