المرأة المصرية بعد الثورة
المرأة المصرية بعد الثورة!!
حسام مقلد *
قبل أيام أطلت علينا الحاجة ياسمين الخيام في لقاء ممتع مع الإعلامية منى الشاذلي، وتحدثت في موضوعات كثيرة، وكان من بين الأسئلة سؤال عن أبرز النساء اللائي كان لهن أثر كبير في حياة الحاجة ياسمين فذكرت: السيدة هاجر عليها السلام زوج أبو الأنبياء إبراهيم وأم نبي الله إسماعيل ـ عليهما السلام ـ، وذكرت كذلك السيدة خديجة بنت خويلد أم المؤمنين وزوج رسولنا محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ، كما ذكرت من المعاصرات اسم الدكتورة زهيرة حسين عابدين أول طبيبة مصرية ورائدة العمل الخيري والاجتماعي في مصر.
وبحكم عملي كنت قد شاهدت عشرات البرامج ومئات الساعات التليفزيونية عن أنماط الثقافات البشرية وصور حياة الشعوب في مختلف أنحاء العالم، وهذه البرامج تتناول في جانب كبير منها الحديث عن المرأة وطبيعتها وواقعها وقضاياها ودورها في الأسرة والمجتمع، ونظرة المجتمعات المختلفة لها، وكثيرا ما شعرت بالأسى على حال المرأة المسلمة والعربية في معظم البلدان، خاصة عندما كانت تستوقفني قصص كثيرة لنساء متميزات صنعن نجاحات رائعة على مستواهن الشخصي أو العائلي أو المهني أو الاجتماعي، أو حتى وصلن إلى التميز على المستوى الإقليمي أو العالمي!!
ومن بين تلك القصص قصة امرأة أصيبت بالغرغرينا في ساقها وهي طفلة صغيرة وكانت الإصابة خطيرة جدا، وكادت تنتشر في جسدها كله؛ فقرر الأطباء بتر ساقها...، وبعد مدة تكيفت تلك المرأة مع واقعها الجديد، وركَّبت ساقا صناعية، وبدأت تمارس حياتها بشكل طبيعي كغيرها من البشر الأصحاء، ولم تكتفِ بذلك فقط، بل التحقت بأحد الأندية وتدربت على ممارسة رياضة الجري رغم أنها بساق واحدة!! وبمساعدة الطرف الصناعي تمكنت من تحقيق أرقام قياسية في ميدان رياضة الركض أو الجري!!
وكثير منا سمع عن هيلين كيلر الأديبة الأمريكية، التي تعد رمزا من رموز الإرادة الإنسانية، فقد كانت لا تسمع ولا تبصر ولا تتكلم، ومع ذلك استطاعت بقوة إرادتها وصلابة عزيمتها أن تتغلب على إعاقتها في معجزة إلهية أثبتت عظمة النعم التي أنعم الله بها على الإنسان وفي مقدمتها نعمة الإرادة الإنسانية القادرة على صنع المستحيل إن توفر الإصرار والتحدي لدى الفرد، ودعم الأسرة والمجتمع ومؤازرتهما له.
وعندما نستدعي بعض نماذج النساء الخالدات في التاريخ الإسلامي كأمهات المؤمنين: خديجة وعائشة وحفصة، وزينب بنت جحش...، وكذلك الصحابيات الجليلات أمثال: أسماء بنت أبي بكر، وسمية بنت خياط (أول شهيدة في الإسلام) وأم عمارة نسيبة بنت كعب الأنصارية (الفارسة المقاتلة المجاهدة) وأم حرام بنت ملحان (التي شاركت في الجهاد في سبيل الله أثناء فتح قبرص وماتت ودفنت هناك) ـ رضي الله عنهن جميعا ـ عندما نستدعي تلك النماذج المشرقة المشرِّفة ونقارن بين أوضاعهن وبين واقع معظم النساء المسلمات اليوم نتعجب أشد العجب ونتساءل في دهشة واستغراب: تُرى من المسؤول عن وصول المرأة المسلمة إلى ما وصلت إليه حاليا من القهر والظلم، أو المتاجرة بحريتها وأنوثتها؟!
إننا لو قلَّبْنَا أنظارنا في مجتمعنا المصري ـ كنموذج للمجتمعات العربية ـ لوجدنا الكثير من النساء يُحْكَمُ عليهن بالموت المعنوي وهن في كامل قوتهن ونضجهن وقدرتهن على العطاء الاجتماعي، وذلك لا لشيء إلا لكونهن مطلقات أو أرامل أو لم يوفقن إلى الزواج من الأساس، ولو أضفنا إلى هؤلاء ملايين الفقيرات الأميات وذوي الحالات الخاصة والعجائز والمسنات لوجدنا مآسٍ إنسانية مروعة تعيش معنا وتسكن قريبا منا ولا أحد ينتبه إليهن، ولا أحد يشفق عليهن أو يفكر فيهن، ولا حتى أقاربهن فكل واحد مشغول بنفسه وبهمومه الخاصة!!
ويمكننا القول: إن المرأة المسلمة بصفة عامة اليوم مع الأسف الشديد لا تنال عشر حُقُوقها التي منحها الإسلام إياها في معظم الدول الإسلامية ، وعلى سبيل المثال فالمرأة المصرية ورغم أنها أحسن حالا من غيرها إلا أنها ومنذ عقود طويلة واقعة بين نارين:
فإما أن تنساق وراء من يدعون إلى سفورها وتبرجها وخروجها عن قيم دينها ومبادئه السامية الداعية إلى الحشمة والوقار، وكأن حرية المرأة لن تتحقق إلا إذا عرَّت جسدَها وتفننت في الكشف عن أنوثتها بشتى الصور!! وقد رأينا كيف صدَّع هؤلاء رؤوسنا أيام سيدة مصر الأولى سوزان مبارك وحبايبها الحلوين من أعضاء وعضوات المجلس القومي للمرأة والجمعيات النسوية الذين لم يكن لهم اهتمامات بقضايا المرأة سوى الختان والخُلْع وتشجيعها على التمرد على زوجها وأسرتها، ولم نسمع يوما أن هؤلاء اهتموا فعلا وواقعا بتعليم المرأة وإنصافها من ظلم الجميع لها ثقافيا واجتماعيا واقتصاديا!!
وإما أن ترضخ لمن لا يرون في المرأة سوى جسدها وأنه كله عورة، وبالتالي فمجرد وجودها خارج البيت يجلب لها وللمجتمع الكثير من المتاعب، لاسيما مع هذا العصر الذي تفشت فيه الشهوات، وزاد فيه البعد عن القيم، وسهل الوقوع في حدود الله، ولا أدري ما الحكمة وما الفائدة من رسم هذه الصورة النمطية العجيبة للمرأة التي تعتبرها مجرد محظية للرجل كل همه أن يستمتع بأنوثتها كذكر ويقضي منها وطره ثم ينصرف عنها ويدير لها ظهره لأنها مجرد تابع له أو جزء ثانوي في حياته؟! وحقيقة لا أعرف من الذي رسم للمرأة ملامح هذه الصورة التي تبدو فيها مجرد عبء على الرجل سواء أكان أبا أو أخا أو زوجا أو ابنا؟!!
إن مشاكل المرأة المصرية أعمق وأعقد كثيرا مما صورته لنا الطبقة المخملية الناعمة التي أفرزها حكم مبارك وشبكة المصالح العنكبوتية التي التصقت به وكانت عنوانا على مرحلته القاتمة في تاريخ مصر، وهي كذلك أعمق من هذا التصور الساذج والنموذج الخيالي أو الوهمي الذي يتبناه البعض للكون والحياة والمرأة جزء منه بالطبع!!
وحقيقة لا أفهم لماذا نرسخ في وعينا وقناعاتنا أن المرأة مجرد مخلوق ضعيف مسكين يطمع فيه الرجال؟ وما الحكمة في أن نهدر طاقات المرأة الإبداعية ونحرم المجتمع منها ونجعله يسقطها من حسابه؟ ولا أظن أبدا أن الإسلام الذي احترم المرأة ومنحها حريتها وكرامتها الإنسانية دون منة من أحد، وأعطاها كل الضمانات الشرعية التي تسعدها وتكفل لها حقوقها ـ لا أظن أبدا أنه سيرضى بأن تحول المرأة إلى مجرد جسد أو سلعة رخيصة تباع وتشترى!! قال تعالى:"يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا" [النساء:1] وقال سبحانه:"وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ" [البقرة : 228] وعن عائشة ـ رضي الله عنهاـ عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه قال : "إنما النساء شقائق الرجال" (أخرجه الألباني وقال حديث صحيح).
طبعا لا يدعو أحد من العقلاء المخلصين الأوفياء للمجتمع المصري ودينه وثقافته وعاداته وقيمه وأخلاقه ومبادئه لا يدعو لأي مظهر من مظاهر التفسخ والتعري والانحلال الأخلاقي لا باسم الحرية ولا بغيرها، ولا يمكن كذلك القبول بأفكار أصحاب النموذج الثقافي المنغلق الذي لا يرى في المرأة سوى جسدها، ولا يتصور أنها يمكن أن تكون عونا ونصيرا للرجل لبناء مجتمع قوي ناهض، ولا شك أن دور المرأة في تربية الأبناء وصناعة أجيال الغد هو أجلُّ أدوارها على الإطلاق، وهذا يفرض علينا أن نعدَّ المرأة إعدادا ثقافيا ومعرفيا وعقليا وأخلاقيا ونفسيا إعدادا سليما سويا يؤهلها للقيام بهذه المهمة الجليلة، لكن مع ذلك ينبغي أن نشجع المرأة على النهوض بدورها الكبير والخطير في بناء مجتمع الحرية والتنمية والعدالة الاجتماعية!!
وعلى الكثيرين أن يخرجوا من أوهامهم ويحطموا (التابو) الذي يفرضوه على أنفسهم وعلى غيرهم، علينا كمجتمع يريد بناء نهضته على أسس قويمة ودعائم راسخة أن نحطم جدران الوهم الذي نسجن أنفسنا بداخلها، علينا أن نكسر قيودنا ونفك الأغلال التي تكبلنا وتعيق حركتنا عن العمل والإبداع الفكري والمساهمة القوية الفاعلة في إنتاج الحضارة البشرية.
* كاتب إسلامي مصري