مراجعات في مسيرة العمل الإسلامي المعاصر 13

مراجعات في مسيرة العمل الإسلامي المعاصر

(13)

د. موسى الإبراهيم

[email protected]

القومية العربية: النشأة والتطور

لقد بدأت الروح القومية في العرب في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، كان ذلك جراء عنجهية الأتراك وصيحتهم بالطورانية.

وكانت الشام أسرع العرب تأثراً بالفكرة القومية، حيث كانوا ينادون بإنشاء مملكة عربية.

غير أن السلطان عبد الحميد رحمه الله أفشل تلك الخطة بإظهاره اللين للعرب، ومن أجل أن يشكل وحدة قوية ضد الغرب.

وهنا فر بعض الشاميين إلى مصر هرباً من السلطان عبد الحميد من جهة، وبتشجيع من الإنجليز من جهة ثانية، وكانت مصر يومها ترزح تحت الاحتلال الإنجليزي.

وفر بعضهم إلى فرنسا التي تشجع مسيحيي الشرق وتظهر الوقوف لجانبهم دائماً.

وكان ممن فر إلى مصر: عبد الحميد الزهراوي، وعبد الرحمن الكواكبي، ومحمد رشيد رضا، ومحب الدين الخطيب.

وممن توجه إلى فرنسا: نجيب عازوري صاحب كتاب "يقظة الأمة العربية" عام 1895م.

وفي عام 1905 نشبت الثورة العربية في اليمن والحجاز ضد الأتراك والخلافة العثمانية، وكانت بداية ومقدمة لإعلان الثورة العربية الكبرى.

وفي عام 1908م أُسقِط السلطان عبد الحميد رحمه الله، وأطيح به وفق مؤامرة كان منظروها يهود الدونمة وسالونيك، ومنفذوها علمانيو حزب الاتحاد والترقي الأتراك.

وبسقوط السلطان عبد الحميد رحمه الله انتهت السياسة الإسلامية، واندفع الاتحاديون في سياسة التتريك.

وكانت ردة الفعل العربية الجمعيات السرية في الشام والعراق لجانب نشاط المبعدين إلى مصر وفرنسا.

ولما بدأت نذر الحرب العالمية الأولى، تحالف الأتراك مع الألمان رغبة في تحقيق مجدهم الطوراني إذا تحقق لهم النصر.

وهنا يسجل للخليفة محمد رشاد أنه عارض هذا التحالف، وأعلن الجهاد ضده، ولكن أحداً لم يستجب له لأن دور الخليفة قد حجم وضيق عليه من قبل الاتحاديين تمهيداً لإلغاء الخلافة.

مصر تجمع شتات دعاة الحركة العربية

إن معظم الكتاب عن العربية في تلك المرحلة كانوا يتصورونها تصوراً إسلامياً، ويعملون لنقل الخلافة إلى العرب بعد أن أصابها ما أصابها بسقوط السلطان عبد الحميد رحمه الله، والذي يقرأ لهم يحس أن الفكرة الإسلامية لا تغيب عنهم أبداً.

وذلك بخلاف الذين لجؤوا إلى باريس، فقد كانوا عرباً ضد أتراك بكل أبعاد هذه الكلمة.

فهذا عبد الرحمن الشهبندر الزعيم السوري: إنه لا يعني الشرقُ عنده إلا العرب، ولا يعني العرب عنده إلا المسلمون، ولا تعني الحضارة العربية في نظره شيئاً غير الحضارة الإسلامية[1].

وهذا مصطفى صادق الرافعي رحمه الله يقول: "والذي أراه أن نهضة هذا الشرق العربي لا تعتبر قائمة على أساس وطيد إلا إذا نهض بها الركنان الخالدان الدين الإسلامي، واللغة العربية"[2].

وهناك اتجاهات أخرى تفهم العربية فهماً قومياً وطنياً معادياً للإسلامية مثل حزب الوفد، ومعظم نصارى لبنان، وعندما يتحدث هؤلاء عن الشرق يعنون به اليابان.

يقول الدكتور محمد محمد حسين رحمه الله: أخطر من الاحتلال الأجنبي الذي قطع أوصال العرب هو قناعة العرب بهذه الخطوط الوهمية وتقديسهم لها.

وقد ركز هذه القناعة أمور أهمها:

- إحياء التاريخ القديم لكل قطر على حدة.

- إيجاد أعياد محلية وطنية غير إسلامية.

ورغم كل هذا فقد ظل للجامعة الإسلامية دعاتها وعلى رأسهم مجلة المنار ورئيسها الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله؛ وكذلك شكيب أرسلان وأحمد شوقي وغيرهم رحمهم الله.

وبعد ...

فتلك جولة سريعة في ظروف نشأة القومية العربية والبواعث والخلفيات التي كانت وراءها.

وغير خاف على أحد الآثار التي ترتبت على هذه الدعوات التي انتهت بالحرب الأولى، وتم بعدها أعظم حدثين في تاريخ هذه الأمة هما:

1- إلغاء الخلافة الإسلامية.

2- وقيام الكيان الصهيوني في فلسطين.

زيادة على تمزق الأمة الإسلامية والعربية وتقطيع أوصالها لتكون دويلات ومقاطعات خاضعة بدورها للأسياد الإنجليز والفرنسيين، ولا تملك لنفسها ولا لغيرها من الأمر شيئاً.

القومية العربية: الأفكار والمعتقدات

لقد وضح لنا من خلال الصفحات السابقة أن الحركة العروبية في منتصف القرن التاسع عشر وإلى نهاية الحرب العالمية الأولى كان لها اتجاهان اثنان:

الأول: كان اتجاهاً إصلاحياً إسلامياً يتبنى العودة بالخلافة الإسلامية إلى العرب بعد أن تخلى الأتراك في آخر عهدهم عن التمثيل الصادق لدور الخلافة الإسلامية وخاصة بعد السلطان عبد الحميد رحمه الله.

الثاني: كان اتجاهاً عنصرياً يتبنى الدعوة إلى العربية لغة وتاريخاً مقابل الطورانية التركية التي كانت ننحكم بالعالم العربي باسم الإسلام.

كما تبين لنا من الفقرات السابقة أن الإنجليز والفرنسيين كان لهم دور بارز في إحداث الوقيعة بين العرب والأتراك لتحقيق مصالحهم وللسيطرة على العالم الإسلامي بعد القضاء على الخلافة الإسلامية وهذا ما تم لهم بالفعل، بعد أن خانوا عهودهم مع الزعماء العرب الذين أغروهم بالانفصال عن الخلافة العثمانية مقابل التاج العربي من المحيط إلى الخليج.

أما بعد الحرب الأولى وسقوط الخلافة الإسلامية:

فقد تغلب التيار العنصري على التيار الإسلامي بين العروبيين، وقامت للقومية العربية فلسفتها التي تجعل منها عدواً لدوداً للإسلام، وقد استطاع هذا التيار أن يمزق الأمة شر تمزيق، وبعد أن كان العرب جزءاً واحداً من الخلافة الإسلامية إذا بالقوميين العرب يمزقون هذا العالم إلى اثنين وعشرين جزءاً لكل جزء منه علمه ورايته وشعاره؛ ونشبت الصراعات بين أبناء الوطن العربي تبعاً للتيارات الحزبية المتعددة الولاءات للشرق أو للغرب، فالاشتراكيون والليبراليون والقوميون السوريون والشيوعيون والتقدميون والرجعيون والإقليميون والقطريون .... إلى غير ذلك من الألقاب والأسماء التي أوهنت الأمة ومزقتها، بل وسلمتها إلى أعدائها بدون حرب ولا قتال.

وسوف أذكر هنا عناوين من الأفكار والمعتقدات التي تبناها دعاة القومية العربية، لنتصور مدى الشقة التي أحدثوها بينهم وبين جماهير الأمة الإسلامية والعربية التي تدين بالإسلام وتفخر به وتعتز به.

ولا بد من التنويه إلى أن معظم القوميين العرب الذين يتحملون وزر هذه الثقافات والأفكار المستوردة إنما كانوا من النصارى، ونصارى لبنان وسوريا على وجه الخصوص، ثم عم البلاء بعد ذلك ليشمل سائر القوميين بغض النظر عن المسمى الذي يحملونه، إسلاماً أو نصرانية أو وثنية أو إلحاداً، فقد تبنى الجميع العلمانية التي هي فصل الدين عن الحياة، وكانوا هم زعماء الحياة، وتركوا الدين للرجعيين والدراويش والمتخلفين عقلياً كما يزعمون.

نعم، هذه هي الروح التي سادت كثيراً من أصقاع الوطن العربي في بدايات القرن العشرين، وخصوصاً بعد الحرب العالمية الأولى، وخاصة بعد الاستقلال وحتى النكبة التي فجع بها زعماء القومية العربية الأمة في حرب حزيران عام 1967م، والتي لم تنته آثارها بعد.

وحتى لا أستطرد كثيراً، أتوقف لأذكر أهم الأفكار والمعتقدات القومية في تلك الفترة:

1- أساس الرابطة التي تقوم عليها القومية العربية هي رابطة اللغة والدم والتاريخ والآمال والآلام، أما رابطة الدين فهي تمزق الأمة العربية وبالتالي فهي مرفوضة عندهم.

2- يدعو القوميون إلى تحرير الإنسان العربي من الخرافات والغيبيات والأديان ...

3- عزل الدين عن الحياة، وشعارهم في هذا الشأن هو "الدين لله والوطن للجميع".

4- الوحدة العربية حقيقة – بزعمهم – أما الوحدة الإسلامية فهي حلم ... !!!

5- العبقرية العربية عبرت عن نفسها بأشكال شتى: شريعة حمورابي، الشعر الجاهلي، الإسلام ... وهذا يعني أن الإسلام ليس ديناً ربانياً عندهم.

6- إذا كان لكل عصر نبوته المقدسة فإن القومية نبوة هذا العصر.

7- إن العروبة هي دين العرب مسلمين ومسيحيين، لأنها وجدت قبل الإسلام وقبل المسيحية[3].

تلك ملامح من أفكار القومية العربية إبان انتشارها وازدهارها، وإن كانت اليوم تعيش مرحلة انحسار وتراجع، بل تجاوز الأمر ذلك إلى حالة من النقد والمراجعات الفكرية والسياسية وخاصة بعد الفشل الذي منيت به القومية العربية في ميدان الحياة العامة والسياسية والاقتصادية بشكل خاص، وهذا ما أشير إليه في الفقرة التالية.

القومية العربية والمراجعات النقدية

فيما سبق من صفحات هذا البحث اتضح لنا صورة القومية العربية نشأة وتطوراً وأفكاراً ومعتقدات.

غير أنه يلاحظ في العقدين الأخيرين من القرن العشرين، وخاصة العقد الأخير منه، يلاحظ توجه جديد عند القوميين العرب، وكأنهم يعيشون حالة مراجعات نقدية لمسيرتهم المتعثرة ولأسباب كثيرة، ولعل أهمها إفلاس الشعارات التي رفعوها سابقاً "وحدة، حرية، اشتراكية" و "أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة"، فلم يعد يصدق أحد من الشارع العربي – فضلاً عن الصفوة والنخب الواعية – أياً من هذه الشعارات لأنها لا حقيقة لها ولا واقعية ولا مصداقية، فأين الوحدة؟ وأين الحرية؟ وأين الاشتراكية؟ وما هي الرسالة الخالدة عندهم؟ وأين هي اليوم؟

وحتى أسلوب خطاب القوميين مع الآخرين بدا عليه تغيير وطراوة غير معهودة، فمن مرحلة التشكيك والاتهام وتبني سياسات العزل والإقصاء للآخر، إلى أسلوب لدى البعض منهم – وخاصة من يعيشون حالة المعارضة السياسية للأنظمة الحاكمة – أسلوب الحوار مع الآخر، ومنهم التيارات الإسلامية، بل يسارع بعضهم إلى طرح مقولات تعدل من مواقفهم السابقة من الدين ومن الإسلام على وجه الخصوص، بحيث بدأ هذا البعض يظهر قبوله بالإسلام مرجعية حضارية للأمة على الأقل، بل وجد من يمتدح الإسلام والقرآن أحياناً.

ومن الأمثلة على ذلك ما كتبه أحد أبرز دعاة القومية العربية شبلي العيسمي عضو القيادة القومية في حزب البعث العربي الاشتراكي في كتابه المسمى "عروبة الإسلام وعالميته".

فهذا الكتاب يعد تطوراً في الفكر القومي رغم أنه كتب من زاوية فهم كاتب للإسلام، وكتابه هذا مليء بالأفكار المغلوطة والقراءات غير الصحيحة لهذا الدين، إلا أنه يعد توجهاً وانعطافاً جديداً في الفكر القومي، ومن المقولات التي تؤكد هذا التوجه الجديد في الكتاب قول مؤلفه:

"لولا ظهور الإسلام وتوحيد القرآن للهجات في جزيرة العرب لزادت الفرقة والانقسامات القبلية، ولتباعدت اللهجات لتشكل عقبة في طريق الوحدة السياسية، .... وهكذا فالإسلام حقق للعرب وحدة العقيدة ثم الوحدة السياسية، وعززها بتوحيد الثقافة والفكر عن طريق القرآن الكريم الذي صان اللغة العربية وحفظ وحدتها ووجودها، ووسع انتشارها حتى تجاوزت العرب إلى شعوب أخرى آمنت بالإسلام[4].

بل يزيد العيسمي تأكيده على عظمة الإسلام ودوره في الحياة فيقول: أجل، لقد كان القرآن لغة وعقيدة الدرع الذي تحطمت عليه سهام الجهل والتخلف ومحاولات الاستعمار للفصل بين العروبة والإسلام[5].

حقاً إنها كلمات جديدة على ما عهد من أفكار القوميين العرب في خمسينيات القرن العشرين.

ومن مظاهر التحول الجديد عند القوميين العرب توجههم للحوار مع الإسلاميين للوصول إلى قواسم مشتركة يتبناها الجميع ويتخذوا منها منهجاً للتغيير والإصلاح السياسي؛ وهذه خطوة جديدة أيضاً وهي باعث تفاؤل إن كانت تعتمد على تغيير المبادئ الخاطئة وتبني المفاهيم والمبادئ الصحيحة، لا مجرد تكتيك أساسي يتبنى الخطاب المصلحي المؤقت للوصول إلى أهداف مرحلية يتم بعدها عودة ما كان إلى ما كان.

وكلامي هذا موجه لكلا التيارين، القومي والإسلامي جميعاً وبآن واحد، ولعل هذه الكلمة خير ما أختم به هذه الفقرة من الدراسة.

                

[1] . مجلة الهلال العدد 1 لسنة 42، نوفمبر 1933م، نقلاً عن الاتجاهات الوطنية لمحمد حسين هيكل ج2 ص117.

[2] . المرجع السابق عدد نوفمبر 1922م.

[3] . الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب المعاصرة، إعداد الندوة العالمية للشباب الإسلامي،ج1 ص 450.

[4] . عروبة الإسلام وعالميته، شبلي العيسمي ص 112.

[5] . المرجع السابق ص 114.