الخطاب الثالث لسيادة الرئيس
الخطاب الثالث لسيادة الرئيس
معاذ السراج
بمقدار ما تتّسم خطابات بشار الاسد بالهدوء والإسهاب واللغة التعليمية بمقدار ما تدخل فيها عناصر غاية في الخطورة تعبّر عن باطن السياسة التي ينتهجها أو يقوم على تنفيذها ... لقد استغرق الحديث عن الإصلاح والحوار معظم وقت الخطاب وهو بمجمله كلام تسويفيّ يعجز عن مخاطبة لحظة راهنة يختلط فيها هدير الدبّابات وأزيز الرصاص بصيحات الشعب المتظاهر المحتجّ ليس فقط من أجل الحرية والكرامة المهدورتين ولكن من أجل مافاجأهم به بشار الأسد ذي النبرة الإصلاحية الهادئة من قتل وحشيّ وإذلال ممنهج حتى بات الكثيرون يعتقدون أنّ السلطة هي من يسرّب العديد من مقاطع الفيديو التي تسجّله كشاهد عيان ليكون رسالة تهديد ووعيد تصل الى من لم تصل اليه الرسالة بعد من الشعب السوري.
فأين الخطاب الإصلاحي من الواقع المأساوي الذي يحتاج الى قرارات مباشرة وحاسمة بوقف القتل وإراقة الدم ووقف أسباب التهجير المتعمّد للمواطنين من إذلال وتعذيب واغتصاب وقتل .... الخ , نعم لقد تحدّث الجزء القليل من خطاب بشار الأسد عن الأزمة القائمة لكن بخلاف لهجته الإصلاحية المعتادة فقد كرّس هنا رؤيته للشعب على أنّه إمّا عدوّ للنظام أو مع النظام واعتبر تحرّك الجيش مبرّرا وضروريّا وفي نبرة خفية أشار الى الشبيحة والأمن المستترين بثياب مدنية بأنهم شباب الوطن الذين يحمونه من الفتنة والإجرام والأخطر من هذا أنّه كرّر وعيده في خطابيه السابقين بأنّه يخوض معركة ومستعدّ لها حتى لو استغرقت سنوات.
إذا هو خطاب إعلان حرب أو تكريس إعلان حرب خفية بدأت قبل بدء الاحتجاجات يتصف باستعلاء وغرور يتلاءمان مع مثل هذا الإعلان...
وإذا كان من غير المنصف أن لا نهتمّ بالقسم الأكبر من الخطاب الذي تحدّث عن الإصلاح والحوار فإنّنا في ذات الوقت ونحن في حالة أزمة شديدة الخطورة مضطرّون للبحث عن العلاجات الفورية والمباشرة, لسنا وحدنا من انتظرها من سيادة الرئيس بل انتظرها الكثيرون غيرنا كعلاجات الصدمة التي طالب بها وزير الخارجية التركيّ, وهانحن نحاول تلمّسها في ثنايا خطاب استغرق حوالي الساعة والربع لكنّنا لم نجد شيئا من ذلك بل وجدنا شيئا معاكسا تماما ... تكريس حالة الحرب ضدّ المحتجّين وتبرير حملات القمع والقتل والإذلال المتعمّد والتهجير ومصطلحات أخرى تحتاج الى قاموس في البربرية ليتمكّن من احتوائها ...
من هنا نجد أنّ من المهم في اللحظة الراهنة البحث عمّا وراء الخطاب وليس في الخطاب نفسه... ما الذي ينوي فعله النظام السوري .. ؟؟ وما الذي يقصده من إصراره على المطمطة والتسويف في مسألتي الإصلاح والحوار الى جانب تصعيده للبطش الهمجيّ الوحشيّ بشكل حادّ وملفت للنظر ..؟؟ بل لقد ذهب به الأمر الى تجاهل نصائح البريطانيين والفرنسيين والأمريكان الذين أمدّوه بالشرعية وسهّلوا له غطاء سياسيّا ستّر على صورته القاتمة خلال سنوات طويلة ... وحتى الأتراك أصدقاء الأمس الحميمون لم يسلموا من تعريضه بنصائحهم بأنّه لا يتلقّى الدروس منهم أو من غيرهم بل هو من سيعطي الدروس..!!
لانريد أن نكرّس رؤية محدّدة بقدر مانحاول الربط الموضوعيّ بين ما يجري على الأرض من جهة وما تعلنه السلطة السورية اليوم على لسان رئيسها من جهة ثانية وما يطالب به الشارع من جهة ثالثة وما كانت تأمله الأطراف الإقليمية والدولية من جهة رابعة...
وفق هذه الرؤية واضح أنّ بشار الأسد ونظامه يسيران بشكل منهجيّ في حالة العنف الهمجيّ الموجّه تُجاه المتظاهرين السلميين والناس العاديين كالنساء والأطفال والعجّز الذين هجّروا من بيوتهم وهم اليوم في خيام للنازحين في تركيا وغيرها من دول الجوار .. ولا تبدو هناك أيّة نيّة للتراجع عن هذه الخطة بل إنّها تشهد تصعيدا مستمرّا لابدّ من فهم أبعاده وحدوده والمقصود من مجمل هذه السياسة ...
أعتقد أوّلا أنّ النظام أدرك تماما أنّ مسألة الاحتجاجات وما تطوّرت إليه أحوالها أصبحت واقعا مستقرّا لابدّ من مواجهته, والنظام بتركيبته الأمنية والفاسدين من داخله والمتكلّسين من كوادره الحزبية لا يمتلك في هذه المواجهة القدرة السياسية والحنكة الفكرية التي تمكّنه من احتواء الموقف وهذا واضح تماما بعد مُضيّ أكثر من ثلاثة أشهر على الاحتجاجات حيث لم يتقدّم مسؤول سياسيّ واحد للحديث الى الشعب إذا استثنينا خطابات الرئيس. وهو إذ لا يمتلك القدرة السياسية فإنّه لجأ الى الحلّ الأمنيّ الى جانب وعود وتسويفات واجهيّة لاترقى الى درجة الثقة المطلوبة عند الجماهير إذ أنّ الدولة برمّتها تفتقر الى الحدّ الأدنى من سيادة القانون واحترام القضاء وحرّيّات المواطنين وهو ماتثبته الأحداث اليوميّة الراهنة التي تتواتر في كلّ ساعة وفي كلّ بقعة من بقاع سوريا.
وإذا افترضنا صحّة هذه القناعة فإنّ النظام يضع الشعب أمام خيارين لا ثالث لهما إمّا الأمن والاستقرار وإمّا الحرّيّة والكرامة... وبهذه المناسبة فليس مانقوله هنا بجديد فلطالما تبجّح الكثيرون داخل سوريا وخارجها بالاستقرار والأمان اللذين حظيت بهما سوريا في عهد حافظ أسد ووريثه بشار لكن أحداث اليوم كشفت الستار عن أنّ هذا الاستقرار والأمان لم يكن سوى طرف معادلة طرفها الآخر هو الذلّ والمهانة وضياع الحقوق وإهدار الكرامة واستباحة ثروات البلد وسرقة مقدّراتها بل وحتى تبرير السكوت على خرق اسرائيل لسيادة الوطن السوريّ واستمرار احتلالها للأراضي السورية , هذه هي المعادلة التي يعلنها النظام اليوم بكلّ وضوح فالحرّيّة والكرامة عنده ثمنها الدماء والقتل والتشريد نقولها ببساطة ودون تزويق أو تلطيف أمّا تتمّة خطاب السلطة فهو أنّ على الشعب أن يقبل بالنظام وما يقدّمه من مكرمات أو يتحمّل العواقب.
أصبح مفهوما إذن دفع النظام للأحداث في هذا السياق ... فما هي نهاية السيناريو إذا .. ؟؟
أن يقبل الشعب بعروض النظام ويستسلم للأمر الواقع ويعود المحتجّون الى بيوتهم وتُختتم مجالس العزاء على أرواح الشهداء بقراءة الفاتحة على ثورة سورية يتيمة وُئدَت في مهدها .. ؟؟!! أمر أصبح اليوم خارج ذهنيّة المواطن السوري الذي ذاق طعم الحرّيّة والكرامة لأوّل مرّة منذ نصف قرن ...
أن تقتنع السلطة بموقف الشعب وتتراجع عن خطّتها الأمنيّة الإجرامية .. أمر هو الآخر خارج ذهنيّة السلطة ولا يوجد أيّ مؤشّر على أنه يمكن للسلطة أن تقلع عنه أو تستبدله بحلّ آخر ...
يبقى إذن الصراع على الأرض بين الجماهير المصرّة على موقفها والسلطة السادرة في غيّها... لكنّ ثمّة مؤشّرات على أنّ هذا الصراع سيُحسَمُ لصالح الشعب في نهاية المطاف ولا نريد أن نستبق الزمن لكنّ الأمر ليس ببعيد ولعلّ تصاعد الاحتجاجات واتّساع رقعتها الجغرافية وتبلور قدراتها في الاستمرار والننظيم والتغطية الاعلامية يوما بعد يوم مؤشّر لايُستهان به يُضاف الى ذلك أنّ إفلاس القبضة الأمنية هو الآخر يتّضح يوما بعد آخر وقبضة الجيش الفولاذية آخذة بالتراخي وحتى لهجة النظام وسياساته هي الأخرى بدت عليها علائم الانهيار ولمن شاء أن يقرأ هذه العلامات فليتفرّس جيّدا في قسمات وجه الرئيس بشار الأسد وجفاف ريقه الذي ابتلعه خلال الخطاب أكثر من خمسين مرّة .. ؟؟!!