تساؤلات حول موقف الإعلام من احتجاجات السوريين
تساؤلات حول موقف الإعلام
من احتجاجات السوريين
معاذ احمد السراج
في القضية السورية نجد أنفسنا لزاما أمام مواقف وتوجهات مثيرة للتساؤل ..منذ بدايات الاحتجاجات كانت هناك مواقف تمهيدية للعديد من الدول الكبرى تشير الى أنها لن تتدخل في سوريا على نحو ما فعلته حيال الثورات الأخرى في المنطقة ,وترافق ذلك مع تجاوب إعلامي خجول ومتحفظ أثار ردود فعل غاضبة من المحتجين والكثير من المراقبين المحايدين. ورغم أن العديد من وسائل الاعلام المعروفة تمتلك مكاتب لها في دمشق لم نلحظ أثرا فعليا لتلك الوسائل في نقل الحدث السوري ..ثم لما تصاعدت الاحتجاجات وتوسع نطاقها وترافقت مع سقوط أعداد كبيرة من القتلى والجرحى وبدأت سيول المقاطع المنقولة بالموبايلات تتدفق على أجهزة الإعلام وتظهر الواقع المثير اختفى تماما أثر تلك الوسائل الإعلامية المفترض أن تعكسه مكاتبها في دمشق ولم يتبق سوى إعلام السلطة واعلام المحتجين, في حالة تفتقر الى الحدّ الأدنى من التكافؤ إذ في الوقت الذي تمتلك السلطة أن تقول ماتشاء وتنقل الصورة التي تشاء فإنّ المحتجين لايمتلكون سوى نقل مايلتقطونه من صور للأحداث الى وسائل الاعلام لتقوم الأخيرة ببثّ ماتجده مناسبا مع الإشارة دائما الى أنه لم يتسنّ لها التأكّد من روايات الطرفين من جهة محايدة ... وهذا ما دفع معظم وسائل الاعلام الى اختصار الكثير ممّا يصلها من منقولات وبالتالي افتقر الحدث السوري الى تغطية حقيقية تنقل الصورة كما هي وليس كما ينتقيها محرّروا وسائل الاعلام أو مروّجوا الرواية الرسمية على التلفزيون السوري ...
وإذا كان من حقّ وسائل الاعلام الرصينة أن تتوثق من الخبر ومن مصداقية شهود العيان فإنّ هناك بالتأكيد حالة كليّة لايرقى اليها الشكّ وحالات جزئيّة نتفق على ضرورة التحقّق منها ...
فبالنسبة للتظاهرات وانتشارها جغرافيا وتصاعدها عدديّا أصبحت حالة كليّة لايرقى اليها أيّ شكّ, إذ انّنا أمام أكثر من مئتي مدينة وبلدة صغيرة وقرية انتشرت فيها التظاهرات وهي أماكن لم تكن معروفة لا بأسمائها ولا بمواقعها حتّى لكثير من السوريين أنفسهم ونقلت مقاطع الفيديو علامات مؤكّدة على صحّة قيام هذه التظاهرات في أماكنها سواء من أماكن محدّدة داخل تلك المدن والقرى والبلدات أو لهجات أهل هذه المناطق أو شهود عيان بأسماء محدّدة ومعروفة تحدّثوا الى وسائل الاعلام وفي بعض الأحيان كان هناك نقل مباشر للتظاهرات كما حدث في درعا وبانياس وحمص وظهرت فيها الأعداد الغفيرة من المتظاهرين وسمعت أصوات هتافاتهم بشكل لايرقى إليه الشكّ ... هذه حالة لم تعد قابلة للمناقشة بأيّ حال.
يضاف أيضا الصورة السلميّة المطلقة للتظاهرات سواء بشعاراتها المعلنة والتي تكرّرت بصورة قاطعة أو بمظاهر المحتجين التي لم تظهر أيّ نوع من أنواع التسلّح سواء بعصا أو بحجارة فضلا عن أن يكون بأسلحة نارية أو غيرها, وهذه مقاطع الفيديو وهي تعدّ بعشرات الآلاف لم تحمل أيّ صورة مغايرة لما نقول ... ثمّ نلحظ بالمقابل الحالات الكثيرة لإطلاق النار على المحتجين سواء من قنّاصة يعتلون سطوح المباني أو من جنود ورجال أمن ومدنيّين يرافقونهم وهم يطلقون النار دون أن يحاولوا إخفاء أنفسهم ... وبعد هذا تنقل لنا فيديوهات المحتجين صور القتلى والجرحى كما هي عليه دون دبلجة ولا مكيجة ونشاهد بأمّ أعيننا الإصابات المباشرة في الجبين والرقبة والقلب في معظم الحالات الأمر الذي لايتمكّن منه إلّا رجال محترفون مدرّبون تماما على إطلاق النار بهذه الصورة بغضّ النظر عن أوصافها وبشاعتها, وهو الأمر الذي لايمكن أن تمتلكه إلّا جهات السلطة تحديدا نظرا لكثرته وانتشاره الواسع فنحن أمام أرقام بالآلاف وليس بالآحاد ... وهذه حالة أخرى لم تعد كذلك قابلة للمناقشة بأيّ حال ...
ومنذ بداية الاحتجاجات وبالرغم من تصاعدها واتّساعها وقوّتها التي يفترض أن تعطي دفعا للمحتجين ورفعا لمعنويّاتهم لم نشهد أيّة حالة لمحتج واحد وهو يحاول حتى الدفاع عن نفسه تجاه من يطلقون النار سوى بعمليّة الهروب أو الاختباء ... ولم تظهر لنا الصور مسلّحين من أيّ نوع يحاولون الدفاع عن المتظاهرين الذين بدا الأمر وكأنّهم هم المستهدفون الوحيدون في الأحداث, أمّا صور الجنود أو رجال الأمن الذين قتلوا بنيران مجهولة فلم تظهر لنا السلطة ولو مرّة واحدة أيّا منهم يسقط بتلك النيران بخلاف ماشاهدناه بالنسبة للمحتجين وإذا كنا أمام مئات من رجال الأمن والجيش الذين سقطوا قتلى في الأحداث فليس من المعقول ألّا نجد مقطعا واحدا يظهر كيف قتل هذا أو ذاك وإنّما تظهر علينا جنازات لم يتجاوز عددها العشرات هي فقط مايمثّل رواية السلطة عن قتلى الجيش والأمن ... وأستميح القارىء عذرا بتساؤل مشروع "لماذا لم تكذّب السلطة روايات المحتجين عن أنّ الشبيحة وبعض رجال الأمن هم من يقتلون رجال الأمن والجيش غدرا ومن الخلف عندما يرفضون تنفيذ الاأوامر بإطلاق النار على المحتجين" وهذه قصّة أخرى أعتقد أنّه لايرقى إليها الشكّ ...
في مسألة المسلّحين أو السلفيّين أو الذين تعدّدت روايات السلطة في تسميتهم ونسبتهم الى هذه الجهة أو تلك, وللأسف تدور كثير من الحوارات حولها وكأنّها مسألة قابلة للنقاش مع أنّها لاتتمتّع بأيّ نوع من المصداقية وحريّ بالاعلاميين النزيهين أن ينفوا القصّة من أصلها بتساؤلات بسيطة ... فمن هم هؤلاء المسلحون وماهي هويّتهم ولماذا تعدّدت روايات السلطة في توصيفهم وتسميتهم ... ؟!! والأهمّ من كلّ هذا ماهي أهدافهم الحقيقية ... ؟!! هل يريدون إفساد تظاهرات المحتجين وإعطاء الذريعة للسلطة بقمعهم كما هو الحاصل على الأرض؟؟!! إذا هم يعملون لحساب السلطة.. أم هم يريدون إقامة إمارات إسلامية كما تدّعي السلطة أو "مستعمرات للتهريب وبيع المخدّرات" فأيّ سذاجة يتمتّع بها هؤلاء وهم يعلمون جيّدا أنهم يواجهون جيشا عتيدا مزوّدا بالأسلحة الثقيلة والطائرات وما إلى ذلك ...
ثم ما لهؤلاء المسلّحين الذين يسعون لإقامة إمارات وهمية, مالهم لم يوجهوا بيانا واحدا لأهل درعا مثلا أو لأهل بانياس أو تلكلخ أو غيرها من الإمارات المفترضة لكي يقفوا معهم ويساندوهم ؟!! أم أنّ مخرج هذا المقطع الهزلي البائس لم يفطن الى الثغرات المضحكة التي تركها كبصمات دامغة على فرية يخجل من افترائها حتى أعرق الكذّابين ...
كل هذه النقاط وغيرها لا أظنّ أنّها تفوت على إعلاميين حاذقين أو محلّلين أصحاب خبرة وقراءة معمّقة للأحداث والظروف التي ترافقها ومن أجل هذا فإنّني مع الكثيرين ممّن يهمّهم الشأن السوري يسودنا شعور بالحزن تجاه وسائل الاعلام ونعتقد أن تغطيتها للحدث السوري افتقرت الى العديد من الجوانب الهامّة التي يفترض أن تتحلّى بها:
أوّلا .. افتقرت الى الانصاف بين إعلام سلطة يقدّم محلّلين لايتمتعون بأيّة مصداقية ولم يقدّموا دليلا واحدا على مايقولون وبين إعلام شعبي بسيط يقدّم أقصى مايمكنه وبأبسط الوسائل وبمخاطرة وصلت الى ازهاق أرواح العديدين وهم يحاولون نقل الصورة الى العالم الخارجي وتصدّي بعض شهود العيان المخاطرين بأرواحهم لنقل الصورة الى العالم الخارجي
ثانيا .. كثيرا ماتكرّر وسائل الاعلام مقولة "لم يتسنّ لنا التحقّق من مصداقيّته" ... وفي الحالات التي ذكرناها أعلاه مع مانظنّه من أنّ وسائل الاعلام تلك تمتلكه من خبرة وقدرة على التحقّق والاستنتاج كما بيّنّاه في النقاط التي أسلفنا ذكرها نجد أنّ التوفيق جانب وسائل الاعلام تلك وهي تسوّي بين عملية التحقّق من اعلام المحتجين الذي يتمتّع بالقوة والصدقية وتواتر الخبر واستحالة تواطئه على الكذب للكثرة الكاثرة من المشاهد الموزّعة على رقع واسعة من الأرض .. واعلام سلطة لايمتلك سوى رواية أو روايتين دون أيّ دليل ماديّ ملموس
ثالثا .. طريقة إدارة الحوار افتقرت الى التوازن في كثير من الأحيان حيث يعطى ممثّلو السلطة الفرصة ليتكلّموا كما يشاؤون مع ماينطوي عليه حديثهم من ثغرات وتساؤلات لاتخفى على أبسط المحاورين ... وفي حالات قليلة جيّدة نرى بعض المذيعين يضعون ممثّلي السلطة في أضيق الزوايا ويسبّبون لهم الحرج الشديد ويفنّدون رواياتهم .. مع أنّ ممثّلي السلطة الذين يتكرّر ظهور الواحد منهم على وسائل الاعلام مرّات ومرّات يناقض أحدهم نفسه ولا يجد من يذكّره بمقولاته التي يكذّب بعضها بعضا الا في حالات قليلة من بعض المذيعين
رابعا .. ونظرا الى أنّ عددا من وسائل الاعلام تمتلك مكاتب لها ومراسلين في دمشق ولم تغلقها حتى اللحظة لكنّهم مع ذلك قلّما يشيرون الى مكاتبهم تلك ومراسليهم ... بل إنّ عددا من المسؤولين الغربيين ومنهم اوباما تكلّم بلهجة شديدة في الحالة المصرية على ضرورة اتاحة التغطية الاعلامية وعدم قطع بثّ الشبكة العنكبوتية بل وتدخّلت عدد من المؤسّسات العاملة في مجال الانترنت لمساعدة مستخدمي الفيس بوك ووسائل التواصل الاجتماعي في مصر وتونس .. ممّا لم نجد صورة مماثلة له في الحالة السورية
خامسا .. ومن حقّنا أن نتساءل لماذا لم تتمّ استضافة خبراء عسكريين لمناقشة صدقية روايات النظام حول الجماعات المسلّحة وماتمتلكه من معدّات حديثة وتدريب راق يفتقر اليه حتى الجيش السوري نفسه ... وبالتأكيد فإنّ استضافة أمثال هؤلاء الخبراء العسكريين ومثلهم من الاعلاميين سيجعل الصورة أكثر وضوحا أمام المشاهد الذي ربّما لايمتلك الخبرة العسكرية أو الاعلامية الكافية للتحقّق ممّا يرى ويسمع ...
أخيرا وليس آخرا فإنّ لدينا شعورا بأنّ الثورة السورية لاتزال تقف وحيدة على الساحة دون أنصار حقيقيين أو شرفاء مهنيين مع تقديرنا الكبير لجهود العديدين ممّن نعترف بفضلهم سواء من أجهزة اعلامية أومقدّمي برامج أو سياسيين أو غيرهم فنحن لانطلق التعميم ولكن يحدونا أمل كبير أن يكون للإعلام الذي تعاظم دوره في أيّامنا هذه بصماته الواضحة في تحرّر الشعوب ونيلها كرامتها وحقوقها ...