صديقي.. قريباً ستعود إلى دمشق

إياد الدليمي

ما زلت أتذكر وجهه المبتسم دوماً والهادئ دائماً، وأتذكر جيداً بنطاله الجينز وأناقته وعطره الفواح، وأيضاً أتذكر حديثه عن الشام ودمشق وحماة وحمص، ذاك صديقي السوري الذي كان يحلم بأن لا يموت بعيداً عن الشام وأرضها، وهو الذي تركها صغيراً عقب مجزرة حماة عام 1982.

رافقته ثلاثة أعوام، في المرحلة الجامعية، وأعواماً أخرى بعدها، كان لا يترك فرصة إلا يستغلها للحديث عن حنينه إلى بلاده، سوريا، رغم أنه هاجر منها صغيراً، ورغم أنه لا يكاد يتذكر منها إلا بعض المشاهد، ولعل أصعبها وأكثرها إيلاماً على نفسه، مشهد مغادرته مع أسرته لمدينة حماة، مشهد كثيراً ما كان يقاربه سالم الأحمد بمشهد تشريد الفلسطينيين من أرضهم على يد العصابات الصهيونية.

ومثله مثل كثير ممن غادر سوريا عقب أحداث 1982، لم يتمكن من رؤية مسقط رأسه ودارهم التي لم يأخذ من صورتها معه سوى بقايا دار بعد أن تعرضت لقذيفة صاروخية أكلت جزءاً منها وأخذت معها خاله الذي تناثرت أشلاؤه ودفن هناك بأرض سوريا قبل أن تغادر العائلة صوب العراق.

لقد اضطر الآلاف من السوريين إلى مغادرة بلادهم عقب أحداث 1982، مغادرة كانت تختلف عن أية مغادرة أخرى، فهي تحمل من الألم والذكريات المريرة الشيء الكثير، ناهيك عن الخوف الذي ظل ملازماً للكثير من تلك العائلات حتى وهي في غربتها ومهجرها، فأعوان النظام استهدفوا العديد منهم وحاصروهم وضيقوا على عيشتهم.

الاغتراب الذي عاشته الآلاف من الأسر السورية عقب أحداث حماة لا يشبه أي اغتراب آخر، فلقد منعوا من دخول بلدهم، بل إن الكثير منهم أسقطت عنهم الجنسية السورية، وآخرون احتاجوا لسنوات قبل أن تسمح لهم السفارات السورية بمراجعتها لاستصدار شهادة ولادة أو تجديد جواز سفر.

أغلبهم بقي يعيش على الذكرى، يعيش على تلك الأمنية في العودة، بعضهم قضى نحبه وهو يؤمل النفس برؤيته أرض الشام قبل الممات دون جدوى، رحلوا وورّثوا الأبناء الحنين لأرضهم ووطنهم، رحلوا وحملوهم أمانة العودة، وصور البيت القديم وداليات الكروم وأزقة الشام العتيقة، وحكايا الموت الذي كان يسير في الشوارع، يطرق الأبواب، يخطف من دقت ساعته ويمهل آخرين ليموتوا رعباً.

كان أكثر ما يؤرق صديقي سالم هو الشعور بأن لا أمل في العودة، قال لي ذات مرة: «أنا أغبط الفلسطينيين أشعر أن لديهم أملاً بالعودة، أمل يتوارثونه، أما نحن فلا أمل لنا، سنبقى نحلم برؤية أرضنا، سنبقى نعيش على بقايا صور، ولكن لا أمل بالعودة».

الشعور الطاغي لأغلب السوريين الذين أرغموا على ترك ديارهم بعد أحداث حماة هو أن العودة في ظل هذا النظام مستحيلة، بل إن أقصى أماني بعضهم كانت هي الذهاب إلى أرض بلادهم بجوازات سفر أجنبية أو حتى مزورة لمن كان يمتلك قلباً شجاعاً ومجازفاً، أما أن تفتح لهم أبواب دمشق ولسان حالها يقول «أهلاً أيها الأبناء، طالت غيبتكم.. تفضلوا» فذاك كان الحلم عينه.

في ظل تنامي حالة الثورة لدى قطاعات واسعة من أبناء الشعب السوري، وفي ظل العنف الوحشي للنظام هناك، فإن ساعة العودة للآلاف من السوريين تبدو أنها قد دنت.

لا أدري أي إحساس سيحمله صديقي سالم وهو يرتب حقائب العودة؟ أي شعور يمكن أن يخالج نفس إنسان عاش مجبراً على البعد عن وطنه وهو يسمع أن ساعة العودة قد حانت؟

أصعب ما يمكن أن يمر به المرء هو شعوره بأن العودة إلى أرض الوطن صعبة، ولا أقول مستحيلة، فالشعور باستحالة العودة يمكن أن يقتل الإنسان.

الوطن لا يمكن أن يختزل بأرض وناس ونظام ومشاهد هنا وهناك، الوطن جزء من إيمان الإنسان، جزء من كيانه وشعوره، حنينه وذكرياته، مرابع صباه وشبابه، أم وأب وأخ وأخت وصديق ومدرسة وشارع ونهر ونخل، الوطن نسيج من يوميات لا تنتهي، فما أصعب أن تجبر على البعد عنه.

ستعود يا صديقي، أنت وكل أولئك الذين عاشوا على الحنين والحلم، ستعود وستكحل عينيك برؤية أمك، الأرض التي عانقتها في أولى لحظات الحياة، وستعانقها مودعا مرة أخرى، ستعود، ولن تبقى الشام بعيدة عنك مهما قربت، كما كنت تخاطبها من بغداد، ستعود وتكلل جيدك بغار زيتونها، فأنت ابنها، ابنها وحسب.

سالم صديقي الذي تركته في العراق، وآخر لقاء لنا كان قبل بدء العدوان الأميركي عام 2003، منذ ذلك التاريخ لا أعرف عنه شيئاً، فكما هو ابتعد عن أرضه، ابتعدت أنا أيضاً عن جرحي، أرضي العراق.