أنا..وعَمان.. وعبد الستار ناصر
كريمة الإبراهيمي
مع صباح مشرق، مخضل بندى ياسمين –دمشق-وزقزقة عصافيرها كانت السيارة تقطع تلك المسافة بين بلدين شقيقين.
كان الطريق من-دمشق-إلى–عمان- يمتد في عمق المدى الواسع من الأراضي الشاسعة التي تكاد خضرتها تمتزج بالسماء، وكانت شمس-آذار- ترسل أشعتها فتزيد من دفء الرحلة.
وأطلت-عمان-من بعيد كروضة تنام على قمة جبل عال، كانت بناياتها الجميلة والقائمة على تلك الارتفاعات المدهشة تبعث في القلب الكثير من الراحة والكثير من الإحساس بالجمال.
وككل بلداننا الجميلة من-القاهرة-إلى–دمشق- إلى–الجزائر-إلى –تونس- كانت-عمان- لا تقل جمالا بحضارتها ودفء أهلها.
كانت أولى الوجوه التي صادفتني بالقرب من مسجد-الحسين- وجوه عربية المذاق، أعادتني إلى –فلسطين- بعمائمها المميزة ولهجتها الحادة.تذكرت-وداد أبو شنب-تلك الصديقة الجميلة التي تحمل بعينيها وجع تلك الأرض وتفردها..أعادتني إلى-صلاح الصافوطي- الشاعر والأستاذ الذي له في القلب الكثير من المحبة والتقدير..أعادتني إلى-باسم الهيجاوي-و-عبد السلام ....-وغيرهم كثير ممن تحتفظ الذاكرة بقصائدهم وحتى بأوجاعهم.
بين-عمان- و-القدس- خيط رفيع يحمل في طياته قصيدة مغزولة على صوت الحمام وقصائد-درويش- وعشق-فدوى طوقان-..
بين-عمان-و-القدس-مسافة أمتار مزروعة بالأسلاك والحراس والبنادق..مسافة ترفض أن تلوح الأيدي بعيدا بلقاء غير مؤكد..
يغفو الحلم على جبين-عمان- وشوارعها الجميلة..تعانق جسورها العالية رغبتي في التسلق والوقوف على أعلى قممها وأغنية من حب تعلو في الفضاء..
وبين حكايات الأصدقاء ،-فادي- و-ميسون-و-عبد الله- والسيارة تجوب شوارع-عمان-كانت الأمسية بنكهة الورد وانتهت معطرة بعبق قهوة هاشمية المذاق.امتزجت حكايات الديار بحكايات التلفزيون و-فادي- المخرج والصديق المثقف يروي شيئا من حياة-عمان- عبر كلمات كانت تتصاعد مع عبق القهوة.
وأنا أجول شوارع-عمان- توقفت بمكتبة صغيرة..ورحت أطالع تلك العناوين..من –ماركيز-إلى-باولو كويلو-إلى أدبنا العربي مع عمالقته من أمثال-العقاد-و-طه حسين-إلى غيرهم..واستوقفني ذاك الاسم الذي عشقت كتاباته منذ كنت طالبة بالجامعة..
كان-عبد الستار ناصر-..الكاتب الساحر بأسلوبه الرسائلي المميز..الكاتب الذي كنت أحتفظ بنصوصه التي تصادفني إذ لم تصادفن إلا في المجلات، فكنت أصورها وأحتفظ بها..كنت أعيد تلك القصص التي بعنوان-خمس رسائل يكتبها رجل عاشق-أعيد قراءتها كلما شعرت برغبة في قراءة شيء جميل..ومدهش..
كان عنوان الكتاب-أوراق رجل مات حبا-..وكان أن اشتريت أول كتاب لعبد الستار ناصر والذي خمنت من رسائله وقبل أن أعرف لاحقا أنه وبلا شك من العراق.فالعراق ليس مجرد رقعة جغرافية، بل هو حضارة أكبر بكثير مما نعرف عنها ولأنه أينما ذكر الحب والشعر كان العراق حاضرا.
قد يكون من الصعب أن نكتب عن كتاب مميزين ولكننا نملك حق أن نقول ولو بكلمة بسيطة: هذا الكاتب رائع..
وأنا أتصفح الكتاب الصادر عن دار الجيل ببيروت في طبعته الأولى عام 1996
والذي كان عبارة عن32 رسالة يكتبها رجل فاشل/خائن/مجنون/
متعب/ضائع/ نادم/..ولكنه عاشق..انه رجل عاشق بامتياز، وكاتب ساحر بامتياز أيضا..
هو المجنون والمذنب والعابث والمقامر وهي-بثينة- التي لا نعرف من خلال الرسائل أنها امرأة لا تشبه كل النساء ..امرأة قادرة على تحويل الأشياء الميتة إلى روح تنبض برسائل من أجمل ما يمكن أن يكتبه رجل عاشق لامرأة..
يستهل-عبد الستار ناصر-كتابه بقوله:"هذه أوراق في الحب، تأتي بعد تسع سنوات على صدور الجزء الأول والثاني منها، فقد استيقظ القلب ثانية ،وصار نبضه أسرع من مطر الشتاء،وما كان من دواء كيما يهدأ القلب سوى الرجوع إلى ذكرياتي وذاكرتي ومذكراتي،ذلك أن كتابة الرسائل تشبه عندي جواز السفر،واختلاف شكل هذه الرسالة أو
مضمونها عن شكل رسالة ثانية،ليس إلا تأشيرة الدخول التي يختمون بها جواز سفري،سفارة اسبانيا ختمها لا يشبه ختم سفارة البرازيل،وختم سفارة فرنسا لا يشبه ختم سفارة بلغاريا أو الجزائر..وفي السفر يا سادتي يهدأ القلب فعلا"1.
هي رحلة حب إذن يصحبنا فيها الكاتب عبر القلب وعبر الذكريات التي قد ندفنها في عمق الروح ونحاول أن نقنع أنفسنا بموتها، لكنها تصحو فجأة لتتحول إلى بخور نحرقه في حضرة الكلمات الحزينة لنكتب سفر الحب الكبير والذي يمكن أن يكون قد رحل مخلفا فقط الكلمات.
يقول الكاتب:"هذه الأوراق مرت بين شرايين القلب،ونامت في مسامات جلدي ،في طريقها إليكم،وإذا ما شم القارئ رائحة الشيكولاته وأحس بطعم الصبا وندى الصباحات الحلوة بين سطورها، عليه أن يعرف كيف كانت رائحة مولاتي وحبيبتي وكيف جاء طعمها في كلماتي وتسرب نداها إلى حروفي.."2.
فبدءا من الرسالة الأولى التي يستهلها الكاتب بقوله:"كما العصافير يا سيدتي، نولد ونعيش،ومثل العصافير يا مولاتي سنموت.."3.تبدأ رحلة الكلمات الممزوجة برائحة القلب وتبدأ معها رحلة العشق،هذا العشق الذي لا يهدأ "تهدأ الدنيا كلها سيدتي، ولا يهدأ هذا القلب أبدا..أمواج البحر سوف تهدأ في النهار،والبركان الذي طال عليه الزمان سوف ينفجر بنيرانه ثم يهدأ عاما أوعامين، إلا قلبي يا مولاتي لن يهدأ مطلقا"4.وتستمر رحلة القلب المتشظي بين الأمنيات المستحيلة بعد أن ضيع آخر خيط للعودة "إنني أعتذر منك وأعتذر من نفسي، كيف لم أفهم أن كل شيء كان قد انتهى وأنا أرى وجهك باردا كمن قذفته الدنيا من آخر القطب الشمالي..؟"5..
انتهى كل شيء إذن بعد أن اختلفت الأدوار وتشابكت فيما بينها لتؤكد هذا الضياع وهذا الألم "هل تدرين يا سيدتي، أنا رقيق ومجرم في آن،ولست أعرف حتى الآن كيف أقتل بيد وأمسح دموعي بيد ثانية؟و لماذا صار قدري أن أكون الممثل الأول في دور الجلاد والضحية معا؟"6.هكذا تقول الرسالة الرابعة، لتتوالى الرسائل وتتوالى معها تلك المشاعر القاتلة حينا والمعذبة حينا آخر"ماذا تنتظرين من رجل فارق عينيك، وصار بينك وبينه أسوار وحدود وأقفال وبحار وصحراء وغيوم؟ماذا تنتظرين أيتها الحلوة التي صارت أول أعدائي وانقلبت قاتلتي وسافرت بعد أن طعنت كل سعادتي،واستقرت هادئة بعد أن أشعلت النار في تاريخي وأحرقت كل نسمة تدور حولي؟7.فماذا تبقى من الحب غير الذكريات وحطام أيام ولت؟ماذا تبقى غير الحسرة والرجاء"سأموت غدا يا سيدتي، عودي رجاء ، أريدك أن تكوني في آخر ساعات عمري حتى أموت غنيا جدا، غنيا بأعظم حب عشته في حياتي.."8. لكنها حسرة تؤجج الحب، الحب الذي يعيد للأشياء ألقها كلما باغتنا في رحلة حزن قاتمة ، نغتسل بدموعنا ونرقب أن يحمل إلينا الغد طيفا أو رائحة أو رسالة ممن نحب فهو وحده يحدد مسافات الحياة وغيرها لا يدخل في حساباتنا" وأنا أحبك أنت يا سيدتي، لا شأن لي بنساء الدنيا، تلك جميلة ومغرية وشهية..تلك أجمل منها وأشهى، لكن حبك أنت يا مولاتي أكبر من جمالهن وأشهى من إغرائهن، وقد أحببتك أيتها الزهرة النقية وانتهى أمري بين يديك"9.
هي الأمنية نفسها تتكرر حين تبدأ سنوات العمر في التساقط ومعها تتضاءل الأحلام في أن نبدأ من جديد..لكننا لا نكف عن ترديد الأمنية والحلم ببداية أخرى وان استحالت في لحظة ما..هو الحب وحده قادر على أن يجعل الدنيا تبدأ من جديد وان مضى العمر أو كاد "إذن كوني يا ولية أمري سببا في أن تبدأ الدنيا من جديد..كوني سببا في حياتي فقد صار الموت يزاحمني ويطرق بابي كل يوم..وأنا أعطي زمني إليك من أجل يوم واحد أراك فيه"10.هكذا تقول الرسالة التاسعة والعشرون..وهكذا يتواصل رحيق هذه الرسائل التي كانت و-لاشك-تلك المرأة المتخيلة أو الحقيقية سببا في ظهورها، ولا شك أن امرأة قادرة على توليد الكلمة الجميلة كما هي في هذه الرسائل لجديرة بأن تكتب لها آلاف الرسائل غيرها.
يقول-عبد الستار ناصر-:" لم أكن أعرف أن القارئ العراقي مملوء بالعشق ومزحوم به، وأنه منذ ولادته منذور للحب ومخلوق من أجله، إلا بعد أن رأيت كتابي الأول-أوراق امرأة عاشقة-والثاني-أوراق رجل عاشق- ينفذان من أكشاك وأسواق الكتب في أيام قليلة"11.وأقول أننا وعلى امتداد هذا الوطن العربي الكبير كنا سنكون ممن يسهمون في نفاذ هذه الكتب أيضا وبلا تردد إذا كانت موقعة من عبد الستار ناصر،لأنه ليس العراقي وحده المأخوذ بالشعر و المنذور للحب بل هو كل من له صلة بأدبنا العربي الذي يزخر بكل جميل ومن يهتز قبله لكل نسمة تداعب روحه ذات صباح أو ذات مساء.
وقبل أن أختم هذه الكلمة في حق كاتب مميز أشير إلى أن-عبد الستار ناصر- وباعتماده على فن عربي جميل هو فن الرسالة والذي توقف منذ زمن، يعيدنا إلى رسم عالم الشعر الجميل الممزوج بالنثر ويفتح آفاقا أرحب لاستيعاب ما بدواخل الإنسان من خلال هذه الرسائل وأن رسائله من أجمل ما قرأت.
ولا أملك في الأخير إلا أن أكرر هذه الكلمات الجميلة للكاتب حيث يقول:"كم هو رائع وبهي أن نعيش بأوهام صغيرة وأحلام تكبر معنا..عندها سوف نغفل عن سر نهاياتنا، بل ننساها ونعيش كما العصافير فوق الغيوم، كما الأطفال في البساتين..نعيش مع الوهم النقي، مع الحلم النازل كما المطر، سعداء كما المجانين.."12.
كم هو جميل سيدي الكاتب أن نعيش مع هذه الأشياء البسيطة لنعرف أن لا شيء أجمل من لحظة صدق، وأن لا شيء أبقى من كلمة حب..
هوامش:
1-ناصر، عبد الستار، أوراق رجل مات حبا، دار الجيل، ط1، بيروت1996، ص05.
2-أوراق رجل مات حبا، ص 06.
3-أوراق رجل مات حبا، ص09.
4-أوراق رجل مات حبا، ص13.
5-أوراق رجل مات حبا، ص17.
6-أوراق رجل مات حبا، ص21.
7-أوراق رجل مات حبا، ص35.
8-أوراق رجل مات حبا، ص40.
9-أوراق رجل مات حبا، ص84.
10-أوراق رجل مات حبا، ص92.
11-أوراق رجل مات حبا، ص06.
12-أوراق رجل مات حبا، ص38.