رسائل من أحمد الجدع ( 54 )

رسائل من أحمد الجدع ( 54 )

أحمد الجدع

الشاعر الكبير محمد حافظ إبراهيم .

هذه هي الرسالة الثانية التي أخصك بها ، وهي أيضاً في الجانب النثري من إبداعك .

كانت الأولى عن كتابك المترجم عن الفرنسية ، أما هذه فعن كتابك : ليالي سطيح !

وسطيح هو الشخصية التي اتخذتها لتروي على لسانها أحداث مقامتك ، وسطيح في تاريخ العصر الجاهلي واحد من مشاهير الكهان العرب ، والذي يتكهن هو الذي يدعي الحكمة ، وأحياناً يربطها بالنبوءة وعلم المستقبل !

إذن فالكاهن سطيح هو صاحب لياليك ، وقد اتخذت راويك ناقداً وسطيح مدافعاً أو متداركاً ، وحاولت في كتابك أن تنتقد عادات اجتماعية ومفاهيم شعرية ، وقدمت نفسك شاعراً على شوقي وعلى سائر شعراء عصرك .

وليالي سطيح صورة تكاد تكون مستوحاة من كتاب "حديث عيسى ابن هشام" لمحمد المويلحي أديب عصره وعصرك ، و "حديث عيسى بن هشام" سار به مؤلفه سيرة بديع الزمان الهمذاني في مقاماته .

إذن حديث عيسى بن هشام وليالي سطيح امتداد لمقامات بديع الزمان الهمذاني .

والمقامة يا سيدي كما يعرفونها في الأدب العربي : قصة قصيرة ذات أسجاع تتضمن عظات ومواعظ ونوادر يستعرض فيها كاتبها ثروته البيانية وبراعته اللغوية ، ومعنى المقامة مأخوذ من معناها اللغوي الذي يعني المجلس ، والجماعة من الناس يتخذون هذا المجلس نادياً .

وليالي سطيح أول ما طبعت في سنة 1906م أي قبل مئة وأربع سنوات ، وبين يدي الآن نسخة تكاد تكون مهلهلة من هذه الطبعة ، وهي من ممتلكاتي التي أعتز بها ، وقد كتب على غلافها أنها طبعت على نفقة عبد العال أحمد حمدان بإذن منك ، وذلك في مطبعة محمد محمد مطر بالحمزاوي بمصر !

وعندما صدر الكتاب في طبعته الأولى قرظه شيخ الشعراء إسماعيل صبري بهذين البيتين :

طالب الحكمة خذها جملةً
قِطَعٌ تبهر ألباب الورى

 

 

عن سطيح من لدن أفصح لافظ
ضُربت في مصر في أيام حافظ

 

والتقريظ من سمات عهدكم ، وقلما نجد في أيامنا من يقرظ كتاباً شعراً ، وقد استبدل التقريظ بالمقدمات التي يكتبها الكاتب للمؤلف وتتصدر هذه التقديمات الكتاب (المقرظ) .

ثم إن كتابك هذا طبع مرة ثانية بدار الهلال بمصر عام 1959م أي بعد طبعته الأولى بثلاثة وخمسين عاماً .

بين الطبعة الأولى والثانية أكثر من نصف قرن ، ولك أن تحكم على مسيرة الثقافة العربية في دنيا العرب البائسين !

هذا نموذج من صفحة 49 في نقد أحمد شوقي :

" قال سطيح : إنك لا تفتأ تتعقب سيئاته وتتحامى ذكر حسناته فمالك لا تذكر بجانب ذلك في هذا البيت الحكيم :

فإنما الأمم الأخلاق ما بقيت

 

 

فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا

 

قال صاحبي : لو شئت أن أضع بجوار كل سيئة من سيئاته حسنة من حسناته لنفدت الحسنات وأنا في الربع الأول من ليلة السيئات .

قال سطيح : إنك إن أخذت عليه أخذه للمعاني فقد أخطأت مواقع الرأي ، فلو طلعت الشمس على جديد لكان صاحبكم خليقاً بما تقول ، ولكن ألا ترى أن المعاني كالنقود تداولها الناس وليس عليهم في ذلك من باس ، ولكن بعض ما أوتيه الرجل من الفضل أصبح داعياً إلى حسده والوقوع فيه .

قال صاحبي : لو كنت ممن يعرفون الحسد لحسدت ذلك الذي يقول :

أسمع في قلبي دبيب المنى

 

 

وألمح الشبهة في خاطري

 

ولكني لا أنزل بنفسي إلى حسد من يقول :

مال واحتجب

 

 

وادّعى الغضب

 

بل أرثي له من التصاقه بمثل هذا الكلام .

قال سطيح : وهذا نوع من أنواع الحسد ، فإنك تعتمد على ذكر شعر ملؤه الوهن والغميزة ، وتعرض عن ذكر ما هو رصين من شعره ، فتالله إن في قوله :

بسيفك يعلو الحق ، والحق أغلب

 

 

وينصر دين الله أيان تضرب

 

وفي قوله :

همت الفلك واحتواها الماء

 

 

وحداها بمن تقل الرجاء

 

لآيات لقوم يعقلون .

قال صاحبي : حسبي فيما ذكر ، وحسبك فيما تنكر علي من ذلك أن أنشدك هذين البيتين ، ثم ذكر بيتين لا يحضرني منهما غير الشطر الأول :

تلك القوافي التي شاهدت شهرتها .

قال سطيح : صنع الله لك يا فلان ، فإني أراك تستبطن أمره وتستقصي شعره ، ولكن هذا لا يعيب من لبث ما أدري كم سنة يضرب على وتر واحد في الغزل والمديح وهو يأتي في كل ضربة بنغمة جديدة ، فلو أنك جئت بأطبع خلق الله على الشعر وكلفته أن لا ينظم ما عاش في غير المدح ، لما غني عن الظهير والمشير ، ولما جاء بأبدع مما يجيء به اليوم شاعر الشرق ، فاعلم بأنه حقيق بالرئاسة عليكم ، وأنه في مقدمة أولئك الذين انبروا لتشييد هذه الدولة الأدبية ورفعوها على ألسنة الأقلام ، فإن أنكرته بعد هذا اليوم فقد أنكرت نفسك وكذبت حسك ، فهو عميد رجال هذه الدولة الجديدة . "

يا شاعر النيل يا حافظ : أردت أن أحيي ليالي سطيح بعد أن غابت عن دنيا الأدب لأكثر من خمسين عاماً بعد طبعتها الثانية في دار الهلال .

هذا النقد العنيف لشوقي كان سببه المنافسة بينكما على عرش الشعر العربي ، فقد منحك الناس لقب شاعر النيل ، ولا يخفى أنهم حاصروك في مصر والسودان ، أما شوقي فقد منحوه لقب أمير الشعراء دون أن يقيدوه بمكان .

ثم إنك تراجعت عن رأيك في شوقي وتخليت عن المنافسة على اللقب ، وبايعته عام 1927م في المؤتمر الذي حضره عدد من وفود البلاد العربية لتكريمه باللقب ، وكنت أنت على رأس من بايع ، وقلت من قصيدة طويلة موجهاً شعرك لشوقي :

أمير القوافي قد أتيت مبايعاً

 

 

وهذي وفود الشرق قد بايعت معي

 

يا شاعر النيل سلام الله عليك ورحمته وبركاته ، وغفر الله لك ولنا .