إجازة في وطني سوريا
إجازة في وطني سوريا
م. هشام نجار
الحلقة الأولى
مساومه على أدويتي في مطار حلب
أعزائي القراء
في صيف عام ٢٠٠٦ قررت وزوجتي زيارة وطننا سوريا.قلت لها يا أم لؤي : سنذهب شهراً واحداً للراحه لن نغوص مع الأهل والأقارب في قصص الماضي وحكايات القيل والقال وإن كنت أجزم أنها مازلت حيه ترزق رغم مرور عشرات السنين عليها , وخذي علي عهداً أني لن أناقش في السياسه أحداً لا من قريب ولا من بعيد ولن أتابع قناة إخبارية فضائية كانت أم أرضيه .فهدف زيارتنا هي للإستجمام ولقاء الأحبه وإسترجاع أيام طفولتي وتذكر شقاوتي ومقالبي مصحوبة بفنجان قهوه على الشرفه فهذا كل مطلبي .. ووقعتٌ على هذا التعهد بقوة الواثق من نفسه ,ورجوتها أن تكون حقيبة سفرنا صغيره..شوية هدايا للأهل والأصدقاء اما عن أغراضنا ففي سوريا كل شيئ متوفر لتشجيع منتجات البلد وشراؤنا ما نحتاجه من الوطن . وميزة أخرى هي أننا نقلل من إحتكاكنا بأولئك الموظفين المتربصين بنا فبعضهم يعمل لصالح مخابرات النظام والعياذ بالله يتلصص على المغادر والقادم ويتفرّس في وجوه الجالس والقاعد ومنهم من يعمل لصالح سيده أو أسياده يتقاسموننا كأفراخ الدجاج ..والويل كل الويل لمن لا يدفع..فالنظام بني على هذه السلسله من الفساد شاملة صغار القوم وعليتهم وكلٌ حسب جهده ومنصبه وخدماته وتقربه من الحيتان الكبيره من آل أسد وآل مخلوف وتوابعهما ..فالنظام كله ومن أساسه مبني على ذلك حتى يلتهي الناس بحالهم ويتركوا النظام يلتهي بفساده ...وهات يا فساد.
أما أنا أعزائي القراء فكل ما حملته بيدي فكان حقيبة صغيره فيها عدة الحلاقه وفرشاة ومعجون أسنان وبيجامتي وكتاب غير سياسي أتسلى به في الطريق مع كومة أدويه عددها سته بزجاجتين لكل دواء فيصبح مجموعها إثنا عشر زجاجه لها علاقه بالقلب والضغط وتمييع الدم وخفض نسبة الكولوسترول السيئ وآخر لرفع نسبة الكولوسترول الجيد
..بإختصار هيك الطبيب بدّو...
غادرنا نيويورك في أواخر شهر تموز/ يوليو من عام ٢٠٠٦ على الخطوط المصريه لنصل عصراً مطار القاهره الدولي منتظرين عملية الربط بالطائره التي ستقلنا لمطار حلب حيث وصلناها عِشاءاً. لا أدري أعزائي القراء لماذا يصاب الإنسان بزيادة نبضات قلبه عندما يدخل مطاراً سورياً,هذه ليست تجربتي فقط بل الكثير من أصدقائي العرب أكدوا لي ذلك..قلت لنفسي ولايهمك ياهشام فأنت اليوم في بلدك وتاريخ جهاد والدك ضد الفرنسيين معروف وكل افراد عائلتي لهم تاريخ مشرف بخدماتهم لهذا البلد الغالي والكل يعرفونك, فهدئ من روعك وتحّكم بدقات قلبك فلا داعي للقلق..الا أن نفسي حدثتني قائلة:يا أبو لؤي أنت تتحدث عن ماضي آخر لايمتٌ لحاضر سوريا بصله..وبضحكة تهكميه على نفسي قلت : "آل (قال) تاريخ وطني آل...يظهر ياهشام إنت عبتحلم" . ثم ضعت حقيبتي الصغيره أمام موظف الجمارك أو المخابرات لاأدري فلقد زرعوا الوطن بهم كالحمّص يخرجون لك بصحوتك ومنامك فقال لي: الأخ منين جايه؟ فقلت له من نيويورك .. قال: الحمد الله عل السلامه..ناولني (الباظابورت) لأشوف . فناولته إياه... تابع قائلاً وين غراضك؟ قلت له:الحقيبه الصغيره اللي أدّامك وحقيبة اليد اللي بإيدي .أردف قائلاً : ناولني الشنته اللّي بإيدك..- تفضل..
مد يده فيها وبدأ يخرج زجاجات الدواء الواحده تلو الأخرى ويَصفّها كالعسكر أمامه .ثم بدأ ينادي أصدقاءه ضاحكاً ساخراً - شوفوا ياشباب الأخ جايب معو كل صيدليات نيويورك .قلت له:أخي كلمتين وغطاهم إذا كان ممنوع وريّني لائحة المنع حتى أرميهم بالزباله وأحجز غداً بالطائره للعوده لعملي في نيويورك,أما إذا كان إحضار الأدويه غيره ممنوعه فلماذا هذه المعالجه! قال الرجل وهوَ شادد ضهرو بالمخابرات :شوف ماهون ممنوعات بس بأدر بشلفون بالزباله إذا رِدتْ ! ثم إلتفت إلى زميله قائلاً يظهر الأخ ما عبفهم؟ هنا زرفت دمعتين على هذا الواقع المر الأليم المشين المخجل الذي حوله هذا النظام الفاشي إلى مافيا وحيتان كبيره قالوا عنه أنه وطن ولم يبق فيه مايمت للوطن بصله لقد حَوَلوه في عهدهم إلى مزرعه.. إلى مسلخ.. إلى مجزره .. لقد قبروا حتى الإنسانيه في مقابر جماعيه ولم يبق لنا سوى الهواء حتى يصادروه من حويصلاتنا . كرامتنا سُلبت.. وحريتنا سرقت حتى أدويتنا يساوموننا عليها وفوق ذلك يخرجوننا بعربات الحكومه ويصفوننا أمام القائد لنصفق لخطبه العصماء حتى تلتهب أكفنا والويل إن لم نصفق ...آه ياوطن أنبكيك أم نبكي أنفسنا؟.. ماذا فعلوا بك دعاة الصمود الفاجر..أربعين عاماً ياوطني انت ونحن في غرفة الإنعاش تارة وفي أقبية المخابرات تارةً أخرى.. غيبوك وغيبونا عن تاريخنا ومنعونا من بناء حاضرنا ويحاولوا ان يحضّروا اليوم مقابر جماعيه لمستقبلنا حتى لا نعد قادرين على التعرف حتى على ذاتنا
أعزائي القراء
وضعت أدويتي في حقبيتي وقلت له صائحاً امام جموع الناس: لن أدفع لك قرشاً واحداً وسأعلم الناس كل الناس ان لاتُبتز بعد اليوم.. وحملتُ مع أم لؤي الحقيبتين وغادرنا المطار إلى أقرب سيارة تاكسي وأنا اعتذر من زوجتي على إخلالي ببنود الإتفاق بأن أمنح السياسه إجازه , فلم أستطع فلقد كان النظام بفجوره وفساده متربصٌ بنا من أول ثانية وطأت أقدامنا تراب الوطن فأبى الاّ أن يجرني إليه.. وفي التكسي فتحت قنينة دواء ضغط الدم وإبتلعت واحده ثم أغمضت جفوني بإنتظار أن أصل البيت لأرمي نفسي على أقرب كنبه وأغط في نوم عميق.
الحلقه الثانيه من قصة" إجازه في وطني سوريا" بعنوان : آلو...أنا أبو محمد
فإلى اللقاء.. مع تحياتي
الحلقة الثانية
آلو... أنا أبو محمد
أعزائي القراءء
تركتكم في آخر الحلقه الأولى وقد أوصلنا سائق التاكسي حوالي منتصف الليل إلى البيت فرميت نفسي على أقرب كنبه ثم رحتُ في ثبات عميق..إستقيظت في اليوم الثاني عصراً وأنا أكثر تماسكاً فأخذت دوشاً بارداً منحني نشاطاً إضافياً..وبعد يومين بدأت إتصالاتنا مع الأهل والأصدقاء لترتيب زياراتهم لنا ..شعورٌ غريب وأنت تلتقي مع الأهل والأقارب والأصدقاء بعد هذه السنين الطويله ..فالطفل صار شاباً وزوجته تضم طفلاً إلى صدرها.. والشاب شابت ذوائبه والكهل إفتقدناه أو كدنا ..
شرفة البيت متوجهه إلى الغرب والهواء المسائي الجاف يداعب وجهي فأستنشقه عطراً مشبعاً برائحة صنوبر بلادي الساكن هناك على ساحل سوريا الغربي المجاور لبحر الوطن..فنجان قهوة صنعته لي أم لؤي وذهبت إلى غرفة الضيوف لترحب بصديقات جئن للسلام عليها..الطاوله أمامي نظيفه خاليه الا من مُسجّل صغير ينطلق منه صوت فيروز المشبع بالحنان والذي عشقته طفلاً وشاباً ومازلت..وانا أرنم معها كلماتها لدى كل رشفة قهوة عربية أتذوقها"طيري ياطياره طيري ياورأ وخيطان بدّي ارجع بنت زغيره على سطح الجيران";
طيري ياطياره هديتي لكم
..ليس لدي شغف في صحف سوريا . لذلك كانت طاولتي خالية منها فالصحف المؤممه تتكلم لغة واحده ممله تعودتُ عليها منذ نصف قرن تقريباً ولم تتغير..كان الله في عوننا ,المقاله أو الخبر في هذه الصحف يجب ان يمر عبر سلسله من التدقيقات قبل النشر قد تصل في النهايه الى موافقة سيادة وزير الإعلام والذي هو في النهايه يخضع إلى احد رؤساء فروع المخابرات ..فهل أنا بحاجه في إجازتي إلى التمتع بقراءة تقارير مخابراتيه مقتولة الإبداع كل ما فيها : أخبار السيد الرئيس ...نام الرئيس ...فاق الرئيس...عاش الرئيس .. إستقبل الرئيس؟...لا ألوم بعض كتّاب هذه الصحف فالصحافه لهؤلاء البعض لقمة عيش وفقط.. كان الله في عونهم..ولولا أن الحكومه تفرض على دوائر الدولة ومؤسسات الحكومه والقطاع الخاص الإشتراك بها لكنتَ وجدتَ الصبيه يجمعون هذه الصحف ويبيعونها بالكيلو إلى أصحاب محلات الفلافل والطعميه ليلفوا بها الصندويش لزبائنهم آه... يا...وطن كل شيئ في سوريا اليوم يقاس بالصمود الزائف حتى صحافة النظام صامده كما ترون بفضل اموال المواطن التي تذهب في طريق دعم وصمود صحافتهم الصفراء آه... يا...وطن كل شيئ فيك يجب ان يكون صامداً بلغتهم من أجل أن يبقى كرسي النظام صامداً وملتصقاً ب( كريزي جلو من نوع خاص) في مؤخرتهم... وزفرت زفرة طويله مع رشفة قهوة عربيه ..إنتبهتُ إلى نفسي فقلت لها:مالك ووجع الرأس.. ثم عدت إلى مسجلتي أعيد مافاتني من اغاني صديقتي فيروز
اعزائي القراء
في اليوم الثالث إستقبلنا الأهل والأقارب -أهلاً... أهلاً ..الله يسلمكم يا ألف مرحبا ..شرّفتوا اهلين وسهلين..أهلاً أبو أحمد والله زغران يا أبو أحمد - يرد: الفضل لأم احمد (تخجل أم أحمد ) -على عيني إنت وأم أحمد الله يخليلك ياها وتبقوا دايمين لبعض إن شا الله.. إنت مصطفى؟ -لا انا سعيد أخو مصطفى..- ما شا الله ..مين مصطفى؟ - هادا الشب اللي على يسارك وهي مرتو اللي جنبو- ما شا الله تركتك يا مصطفى وأنت بتلعب بالحاره ..كيفك خالتي أم محمد ..وانت أخي ابو مازن كبرنا بس الشيب ماهو مقياس المهم شعور الشباب يكون موجود....يا أسعد عمو ساعد خالتك أم لؤي جيب كم كرسي من أودة السفره..تعي حبيبتي لجنبي ..إنت شو إسمك؟ - أنا علياء - عاشت الأسامي -عمري خمس سنين ما شا الله - خالتي: هي بنت إبني الزغير خالد- الله يخليّون حلوين ديرو بالكون عليهم ( قلت لنفسي :من أجل هذا الجيل يطالب شعبنا بالحريه .من أجل جيل واثق لايرتجف يقول كلمة الحق للكبير والصغير دون خوف ولاجل .من أجل بناء شخصيتهم القويه يطالب هذا الشعب بالحريهوالكرامه)
إخوتي وأخواتي بدأ الحديث يدور بين الجميع ..السيدات لهن أحاديثهن الخاصه بهن.والرجال لهم أحاديثهم.. تكلمنا عن البلد.. عن الذكريات.. عن الأحياء..عن الأموات ..تكلمنا في كل شيئ وعن كل شيئ الا السياسه...اليس هذا كان وعداً مني لأم لؤي أن لا أجيب سيرتها؟ الجو كان ممتعاً وفناجين الشاي المعطر بالقرفه من صنع أم لؤي تدور علينا..والآيس كريم وحلاوة الجبن من محلات سلوره الأصلي تخفف عنا حرارة شهر آب / أغسطس...وفواكه تفوح رائحتها البلديه في الغرفه فتنسيك فاكهة نيويورك الصناعيه, وفي غمرة هذا الجو الإحتفالي يقرع جرس التلفون فيرفع أخي سماعة الهاتف -: آلو...مين؟ - مرحبا أنا أبو محمد, حضرتك الأستاذ هشام؟ - لأ..لحظه .يهمس في أذني : عبؤول ابو محمد! قلت: مين أبو محمد! أش بدو! وكيف عرف تلفوني! كل هذه الأسئله مرت في مخيلتي قبل أن أستلم سماعة الهاتف من أخي -: ألو مين - مرحبا مهندس هشام أنا أبو محمد من مخابرات أمن الدوله - أهلاً بأمن الدوله...أي مساعده؟ - عذراً على الإزعاج - : ياسيدي بسيطه.. اي خدمه؟ - سؤال إذا سمحت ممكن تعطيني عنوان ورقم تلفون أخوك المهندس غسان؟ هنا كان علي ان آخذ فترة تنفس وحبة متروبولول لتخفيض الضغط ثم أعيد خلال عشْر الثانيه برمجة ذاكرتي لهذا الطلب العجيب الذي ينم عن غباء او إستغباء لي وهو الأرجح قلت له: ياسيدي الفاضل انتم مخابرات الدوله ..تعرفون عناوين السوريين فرداً فرداً ويلجأ الشعب إليكم لمساعدته بتزويده بأرقام هواتف لايشملها دليل الهاتف..تقيمون في كل بنايه..تنصبون خيامكم فوق كل منزل عربي في حاراته القديمه..تعرفون متى ينام الشعب..ومتى يصحو وماذا طبخ اليوم وماذا سيطبخ غداً ..وأين سيقضي سهرات رمضان...ثم تسأل يا أبو محمد مثل هذا السؤال لشخص وصل وطنه منذ ثلاث أيام فقط.. ترك حلب وعدد سكانها مليونان ونصف ليجدها اليوم اربع ملايين ونصف نسمه!؟ - رد أبو محمد: آسف أستاذ على الإزعاج وأغلق الخط.
الجميع فغر فاهه متعجباً الا ان بعض الزوار حاول إمتصاص الصدمه قائلاً:إن الأمر عادياً هنا فلا تقلق يا أبو لؤي...
لا أقلق!..لا أقلق!..لا أقلق! اهكذا يعاملون الشعب! أهكذا يوجهون إنذاراتهم لزوار الوطن وأهله ...اهذه هي طريقتهم المقنعه ليفهموننا أن كل شيئ مراقب وتحت جزمتهم ...آه يا وطن ..وما زالوا يسمونك وطناً تجاوزاً فلقد حولوك إلى سجن كبير زرعوا فيه كاميراتهم الخفيه حتى في غرف نومنا وحمامتنا...ثم قالوا لنا لاتقلقوا ..فكل ذلك من أجل إسطورة الصمود الزائف والتصدي الكاذب.....إلتفت إلى زوجتي أم لؤي قائلاً : من فضلك حبة متروبولول تانيه لتخفيض الضغط ...ودعنا أحباءنا...وذهبت إلى فراشي أغط في نوم عميق
الحلقه الثالثه من : إجازه في وطني سوريا بعنوان:دمعه على الإنسحاب الكيفي من الجولان...مع تحياتي