صور ناطقة للتحوت والروابض 20+21+22
صور ناطقة للتحوت والروابض
20+21+22
أحمد الجدع
[20]
-- -----------------------------
قال لي قبل أن أتوجه إلى مطار القاهرة عائداً إلى الوطن ، لا بد أن يكون معك (فكّة) ، فقلت له وما تنفع الفكة إذا كانت العملة المعدنية لا تساوي شيئاً ، هز رأسه ، وأفهمني أن الفكة أصبحت الجنيه والخمسة والعشرة .
لماذا هذه الفكة ؟
قال : عندما تصل المطار تعرف لماذا .
وصلنا المطار ، أسرع أحدهم فأنزل الحقائب ، وأسرع آخر فأحضر العربة ووضع فيها الحقائب ، نقدتهم أجرهم ، ثم قدت العربة حتى البوابة ، التي لا يجوز لأحد أن يدخلها إلا المسافرون .
التفت إلي هو وصاحبه وقالا : بالسلامة .
لم أفهم لحظتها ماذا يريدان ، وقف الشرطي الذي ينظم الدخول يستمهلني ، ذكرت الفكة فأعطيتهم ما يرضيهم ... عندها التفت إلى الشرطي ، كانت عيناه تنطقان قبل لسانه ، بالسلامة يا فندم ، نقدته من الفكة ، تذكرت الذي نصحني بحمل الفكة فدعوت له .
دخلت القاعة ، حمل شرطي الحقائب ووضعها على آلة الفحص ، أنقذتني الفكة ... جرت الحقائب على شريط الفحص ... توقفتٍْ في منتصفه حيث لا أراها ، كان الشرطي الذي يفحص ذا رتبة ، أقول لكم خشيت أن أعطيه شيئاً حتى لا أحط من قدر رتبته وحتى لا أُتهم بالرشوة ... ومن ينقذني من ورطة كهذه ؟ انتظرت ... قال الرجل : إلى الأردن إن شاء الله ؟ قلت : نعم ، قال : مرني يا باشا ... قلت له : أستغفر الله أنت الباشا يا سيدي ، وأنت الذي تأمر ، ابتسم ، أصبحت في حرج ، لقد توقفت حقائبي ولم يعد الحبل يجري ، ولعله حرن ، ولكن الرجل لم ينهض لإصلاحه ... همس الشيطان في روعي ، قدم له فكة ، تناولت خمسة جنيهات وقدمتها له ... فنجان قهوة يا باشا .
الباشا أخذها وقال : أنا لا أشرب القهوة ... خمسة أخرى ، كأس شاي يا باشا ، عاد الحبل يجري ، وظهرت حقائبي .
أعدتها على العربة ... جاء أحدهم وقال : مساعدة يا باشا ... يا الله سوف أعود إلى القاهرة ألف مرة لأسمع هذه الكلمة التي تزرع في نفسي عزة وهمية ، ولو ، الواقعية لم تعد تجدي ...
ساق العربة مباشرة إلى ميزان الأمتعة ، وضعها على الميزان ، نقدته الفكة ، وحسبت أن الأمر انتهى .
لم يتحرك الميزان ، سألت المسؤول عن الوزن : هل تعطل الميزان ، يا لسوء حظي ، استعدت جواز سفري وتذكرتي ، ولكن صوتاً لصديق ناداني ، توقفت ، جاء وهمس في أذني : عشرة جنيهات في جواز السفر ، فسوف ترى أن الدولاب يدور .
ترددت خائفاً ، أخذ مني الجواز ووضع فيه عشرة جنيهات ، وقدم الأوراق فاشتغل الميزان .
من القاهرة إلى الطائرة تكررت صورة الرشوة العلنية .
قال لي صاحبي : إن الذي تراه هنا سوف تراه في كل الدوائر الرسمية ... لا تنجز معاملتك إلا بعد أن تستجيب للنداء : مرني يا فندم ، أي ادفع ...
أيها السادة : لا ، ليست هذه مصر ، مصر العظيمة تنحدر إلى هذا الدرْك الذي أرى ؟ إنها كارثة قد حلت في هذا البلد الحبيب .
هنا ، ليس الذين يفعلون هذا هم التحوت والروابض ... وفهمكم كفاية !
رعى الله مصر ، أم العرب ، وأم المسلمين ... وأم الدنيا .
وسوف تعود بإذن الله أم العرب ، وأم المسلمين ، وأم الدنيا .
وسلام على مصر وأهلها .
حسبنا الله .
==========
[21]
-------------------------------
يتسع عالم النشر عاماً بعد عام ، وأصبح له مجالات أوسع من مجال الكتاب الورقي ، إلا أن الكتاب الورقي يبقى هو الوسيلة السهلة للقراءة ، فإذا اختفى الكتاب الورقي من عالم النشر فإن ثقافة الإنسان تبدأ بالتراجع حتى تصل إلى مرحلة العدم ، وعند ذلك يستوي الإنسان وسائر المخلوقات !
ومما يؤثر سلباً على عالم النشر اختفاء الهدف لدى بعض الناشرين ، وهنا يدخل عالم النشر طفيليات عجيبة تعمل على هدم العقول ، والأصل في النشر بناء العقول .
عوامل الهدم التي دخلت عالم النشر كثيرة ، ومنها الاستخفاف بعقول جمهور القارئين .
دعونا نقرأ بعض عناوين الكتب .
كيف تصبح مليونيراً ؟
الفقير المعدم الذي لا يجد مخرجاً من فقره يكون تحت ضغط نفسي ، وهو مستعد لأن يتقبل أي اقتراح ليخرج من مأزق الفقر .
والشخص الذي يتلهف للغنى ، وإن لم يكن فقيراً ، يدخل في عالم المرضى النفسيين الذين يستعدون أن يسلكوا أية وسيلة ليصلوا إلى الغنى وما بعد الغنى .
مثل هؤلاء ، وهم كثر ، يروج عندهم مثل هذا العنوان ، وهم لم يسألوا أنفسهم إن كان مؤلف مثل هذا الكتاب قد أصبح مليونيراً ، هذا إذا كان الاسم الموجود على غلاف الكتاب حقيقياً !
ومثله : كيف تعيش مئة عام ؟
والأمل في الأجل موجود عند كل البشر ، فهم يسعون إليه بكل الطرق ، ولا بأس أن يستغل محتال مثل هذا الأمل فيؤلف لهم كتاباً يرشدهم – بزعمه – إلى إطالة أعمارهم وهل استطاع هو أن يعيش مئة عام ، ربما اخترمه الأجل قبل ذلك بكثير .
أعرف رجلاً عاش مريضاً حتى بلغ التسعين ، وأعرف شباباً ماتوا وهم أصحاء ، وأعرف أغنياء لم يُجْدهم ما ألزموا به أنفسهم من برامج صحية دقيقة فماتوا قبل أناس لم يعرفوا ما هي البرامج الصحية ...
إن من أنفع العلاجات النفسية ما أخذ به الشرع من الإيمان بأن الأعمار بيد الله ... وهذا لا يمنع أن ننظم برامجنا الصحية وحياتنا الغذائية ...
ولكن يجب أن لا يخدعنا المؤلفون الزائفون الذين يتطلعون إلى جيوبنا .
ومثله أيضاً : كيف تزدادين جمالاً ؟
والنساء بلا استثناء يسعين إلى الجمال ، وتهفو كل امرأة أن تكون الأجمل ، وتتخذ لذلك كل الوسائل ، هذه الصفة النفسية في النساء يستغلها الباحثون عن ابتزاز النساء ، فقد كثرت الكتب التي تسلك الطريق إلى نفسيات النساء ورغبتهن في الجمال .
كيف تزدادين جمالاً ، طريقة من طرق ابتزاز المرأة والسطو على جيوبها ، وإلا فإن الجمال الحقيقي هو الجمال الطبيعي الذي خلق الله عليه المرأة ، وقديماً شهد بذلك سيد الشعر العربي أبو الطيب المتنبي :
حسن الحضارة مجلوب
بتطرية |
|
وفي البداوة حسن غير مجلوب |
لا تنخدع النساء بكتب " كيف تزدادين جمالاً " فقط ولكنها تنخدع أيضاً بكل شركات التطرية التي تغطي دعاياتها الكرة الأرضية !
هذه أمثلة فقط .
والدجل ، والضحك على الذقون لا يتوقفان !
حسبنا الله .
==========
[22]
-------------------------------
كان أخي يستأجر شقة في إحدى عمارات مصر الجديدة في ميدان يقولون له " تريومف " وهو باللغة الفرنسية ، ويعني ميدان النصر ، وكان آنئذٍ يدرس في كلية الزراعة في جامعة الأزهر ، زرته في هذه الشقة ، وكان مما أزعجني فيها أنني ضقت ذرعاً بالرائحة الكريهة التي كانت تنبعث من إحدى الشقق ، ولما سألته عنها ضحك وقال : العمة وجيدة ؟ إنها تعيش مع القطط ، وترعى في شقتها أكثر من عشرين قطة ، وتقول إن معاشرة القطط أفضل من معاشرة البشر !!
وقد اطلعت على عدد من الناس فضلوا أن يعيشوا مع الكلاب والقطط والعصافير ... وحتى الحمير ، وقطعوا كل صلة لهم بالناس .
وقد أصبح لهذه الحيوانات في الأسواق التموينية أغذية تباع وتشترى ، ولعل أثمانها أكثر من أثمان الأغذية التي يتناولها البشر .
وفي التاريخ العربي أمثلة كثيرة لأناس ضاقوا ذرعاً بتصرفات البشر وأحاييلهم فانصرفوا عنهم وأنسوا بالوحوش في الفلوات ، وهذا الأحيمر السعدي ينبذ البشر ويعاشر الذئاب ويصرح بأنه بفضلها على بني الإنسان .
عوى الذئب ، فاستأنست بالذئب إذ عوى |
|
وصوَّت إنسان فكدت أطير |
وهذا الشقري الأزدي ، وهو شاعر جاهلي ، يفر من أقرب الناس إليه ، ويلجأ إلى الفلوات يعاشر الحيوانات المفترسة فتأنس إليه وتكف أذاها عنه ، لقد فرّ الشنفري من أقرب الناس إليه ، أهله وذويه ، وأنس بوحوش الفلا ، وخاطب أهله قائلاً :
ولي دونكم أهلون ، سيد عملس |
|
وأرقط ذهلول وعرفاء جيأل |
استبدل الشنفري أهلاً بأهل ، ومن أهلوه في الفلاة إنهم : الذئب والنمر والضبع !
وفي كل زمن هناك أصناف من التحوت والروابض يأنف الإنسان من معاشرتهم ، ومع ذلك يطاله أذاهم ، فيفر منهم فرار السليم من الأجرب .
وقد ضاق أحدهم بأمثال هؤلاء الروابض ، فألف فيهم كتاباً عنوانه : " تفضيل الكلاب على كثير ممن لبس الثياب " !!
هؤلاء أناس عرفوا رجالاً من التحوت والروابض ، وكان الزمان لا زال مقبلاً ، فماذا نقول نحن وقد انتشر الروابض كالوباء والتحوت كالجرب ، وأصبح الزمان مدبراً !
حسبنا الله .