الثورات العربية وتسونامي اليابان
محمود المنير
مدير تحرير جريدة الحركة/الكويت
وسط انشغال العالم بثورات العالم العربي التي كشفت عن مدى الانحراف والفساد المتجذر في الأنظمة والشعوب على حد سواء والاختلال الواضح في منظومة القيم في المجتمعات العربية بفعل الفساد الذي نشرته الأنظمة على مدار عقود طويلة حتى فجعنا بكم حوادث السلب والنهب والاغتصاب والسطو المسلح والفوضى والهرج كما حدث ومازال يحدث في مصر وتونس، وسط ذلك كله حدثت أزمة اليابان المتمثلة في تعرضها إلى أعنف زلزال في تاريخها بلغت قوته تسع درجات بمقياس ريختر ، والتسونامى الهائل الذي تبع الزلزال والذي اكتسح سواحلها و تجاوز ارتفاعه عشرات الأمتار، ثم تلا ذلك العطل المفزع الذي أصاب مفاعلات توليد الطاقة النووية وأدى إلى حدوث تسربات إشعاعية لا يعلم مداها ومقدار أضرارها المستقبلية إلا الله سبحانه وتعالى، وما نجم عن هذه الكوارث من وفاة عشرات الآلاف من السكان في شمال شرق اليابان وإصابة عشرات الآلاف وتشرد مئات الآلاف من منازلهم وقراهم، وانهيار الاقتصاد الياباني الذي كان يمر بمرحلة مهزوزة منذ سنوات.
وبالرغم من كل هذه المصائب فلقد شاهدنا كيف واجه اليابانيون الحدث الجلل والمروع بكل بهدوء ورباطة جأش وتكاتف وعزم وتصميم ، وكيف قدموا للعالم ملحمة الصمود وكيف أظهروا القيم الراقية للتعامل مع الأزمة.
ونحن نرصد طرفا من هذه القيم والدروس من أزمة تسونامي اليابان ثمة مشهدان مختلفان تماما بين ثوراتنا التي قمنا بها في بعض دولنا العربية لنحدث تغييرا إلى الأفضل فكشفت أقبح ما في شعوبنا من خلل وفوضى وبين ثورة فرضت على اليابان زلزلت المباني ودمرت المقدرات ولكنها أظهرت أجمل وأرقى ما في الشعب الياباني ما يجعلنا أن نستلهم عشرات الدروس والعبر من اليابانيين لمواجهة الأزمات والتي نقلتها لنا وسائل الإعلام وأول هذه الدروس هو الهدوء الجم المفعم بالبكاء العزيز حيث عبر اليابانيون عن أحزانهم بهدوء وكرامة وعزة نفس فلا هرع ولا جزع فلم يواجهوا هذه الأزمة بالصراخ الهستيري أو اللطم والعويل ،وهذا الراقي السلوك هو قمة الأدب مع قدر الله عزوجل الذي دعانا له الإسلام.
الدرس الثانى غالبا ما تُحدث الكوارث المفاجئة للناس حالة من الفوضى والذعر والهرج الشديد ولكن ما شاهدنا عبر الشاشات التي نقلت لنا مشاهد من تعامل اليابانيون من الزلزال كان درساً مبهرا في النظام حيث التزم الجميع بالنظام في المحلات والأسواق والطرقات بدون تدافع أو ازدحام، وتزداد عجبا عندما نشاهدهم في المكاتب والمصالح الحكومية والتي كنا نشاهد حرصا منهم على التماسك والمرونة ومحاولة حفظ الأجهزة على المكاتب وقت الهزة خوفا من وقوعها على الأرض وكأن هدفهم الأول ليس حماية أنفسهم بقدر ما يكون حرصهم على حفظ المال العام !!
الدرس الثالث كشف عن معدن الإخلاص والإتقان والكفاءة الفنية وإحكام البناء فبالرغم من ضراوة الزلزال الذي أصاب اليابان إلا أن معظم المباني العملاقة لم تسقط واكتفت بالتأرجح يمنة ويسرة وجاءت معظم الخسائر في الأبنية الصغيرة القريبة من الشواطئ من الطوفان الذي اجتاحها وفى بلادنا تسقط عشرات العمارات الشاهقة وتنهار مثلها من المدارس على رؤوس الأطفال لانعدام الضمائر بفعل الذمم الخربة التي أفسدها الجشع ونشأت على نهب المال العام!!
الدرس الرابع بدا جليا في الوعي في التعامل مع الأزمة والتدريب على التصرف مع الكوارث فعندما حدث الزلزال كان الجميع مدرباً على كيفية التعامل مع الحدث الأمر الذي خفف من أعداد الضحايا التي كان يمكن أن تكون أكبر بكثير. وهذا الوعي هو حصيلة تربية مستدامة على مدار السنوات قامت بها وسائل الإعلام ووزارة التربية والأسرة ومؤسسات المجتمع المدني في اليابان فلابد لكل دولة من ثقافة وقيم مجتمعية تنشرها بين مواطنيها للنهضة والبناء ومواجهة الأزمات .
أما الدرس الخامس فدرس بالغ وأدب نبوي في تجنب الاحتكار والروعة في الإيثار حيث كان اليابانيون يكتفون بشراء احتياجاتهم المباشرة من الغذاء ومياه الشرب وكان كل منهم يحرص على أن يتمكن رفاقه وجيرانه من تأمين احتياجاتهم بحيث تكفي تلك المواد للجميع،لم نشهد نفادا للسلع في المتاجر ولا ارتفاعا في الأسعار، حالة عامة راقية تجعلنا نخلع القبعة أو العمامة إذا كان فوق رؤوسنا شئ تبقى لنا نعتز به ونخلعه لهذا الشعب الراقي والمهذب والمنضبط حتى في وقت الأزمات .
الدرس السادس في ثورة مصر المحروسة هربت واختفت في بعض دقائق عشرات الآلاف من عناصر الشرطة من كل شوارع مصر وتخلت عن مسؤوليتها في حفظ الأمن في كل أنحاء البلاد وأحدثت فراغا أمنيا ترك جرحا غائرا في كل نفوسنا قد يحتاج إلى عشرات السنوات لكي ننساه وبالمقابل شاهدنا التضحية الباسلة من مجموعة من العمال اليابانيين في المفاعل النووي في العمل على مدار الليل والنهار لعدة أسابيع ومازالت تعمل لمحاولة لإصلاح ما طرأ فيه من عطل بالرغم من المخاطر الواضحة التي يشكلها ذلك على حياتهم وصحتهم، ولقد رفض هؤلاء العمال أن تطلق عليهم صفة الأبطال وقالوا إنهم لا يؤدون أكثر من واجبهم المهني المفروض عليهم !!
الدرس السابع شاهدناه في نجدتهم للمحتاج ولو بزجاجة ماء وتطوع مجموعات من الشباب الياباني لمساعدات وإغاثة المنكوبين بما يحتاجون إليه من الماء والغذاء والتراحم بين أفراد الشعب كله فلقد بادرت المحلات والمطاعم إلى تخفيض أسعارها بل إن بعضها كان يقدم الوجبات مجاناً للمحتاجين وحرص القادرون في كل منطقة على تفقد جيرانهم وتأمين احتياجاتهم، وهذا المشهد للحق والإنصاف تجلى في ميدان التحرير إبان الثورة المصرية وقامت به اللجان الشعبية في كل الميادين والشوارع المصرية.
الدرس الثامن فلقد كان درساً فريدا في الأمانة التي حث عليها إسلامنا وجعلها من مقومات الدين لما ورد في الحديث الشريف :"لا دين لمن لا أمانة له" : حيث لم تشهد المناطق المنكوبة في اليابان أية حوادث للسلب والنهب أو السطو المسلح أو نهب للمصالح الحكومية أو المجمعات التجارية بل إن مرتادي أحد الأسواق التجارية عندما انقطع التيار الكهربائي قاموا بإعادة ما كانوا قد التقطوه من مشتريات وأعادوها بهدوء إلى الأرفف قبل مغادرة الأسواق .
الدرس التاسع تمثل في الاحترام والالتزام الجمعي النابع من العقل الجمعي لشعب تربى على النظام ، فلقد انتظم الجميع في طوابير طويلة للحصول على احتياجاتهم من الغذاء والوقود ولم تنقل لنا وسائل الإعلام حوادث تدافع للمواطنين على طوابير الخبز والتي تفضي إلى قتل العشرات كما يحدث في بعض بلادنا العربية ولم تصدر عن أحدهم كلمة نابية أو تصرف أهوج كما نشاهد عند تزاحم السائقين على محطات الوقود في بلادنا في الأحوال العادية وليس وقت الأزمات!!
أما الدرس العاشر وغيره العشرات وهو الأهم والأخطر بكل المقاييس والذي تمثل في انضباط وسائل الإعلام حيث لم تلجأ إلى التهويل ولا إلى التهوين من حجم الكارثة بل كانت التقارير الإعلامية متسمة بالهدوء والموضوعية والصراحة،ولم تنشر أخبار تزيدي من هلع وخوف المواطنين ولم تبث الإشاعات بهدف زيادة المبيعات بل قامت بدورها الوطني الجاد في مواجهة الأزمة وتوعية المواطنين.
ولعمري ما نشاهده ونسمعه ونقرأه عبر وسائل إعلامنا في العالم العربي هو جريمة صارخة بحق شعوبنا بسبب الزيف والتضليل والتآمر الذي يمارسه الإعلام الفاسد لصالح مموليه، فهو يهدم أكثر مما يبنى ويفسد أكثر مما يصلح ويحتاج إلى الإصلاح والتطهير !!
في السياق :
المقاربات والمقارنات التي أوردنها في المقال ببعض الحوادث السلبية التي حدثت إبان الثورة المصرية لا تغفل الكثير من الدروس العظيمة التي أحدثت الثورة المصرية في شعوبنا والتي أشرنا لها في مقالات سابقة .