صور ناطقة للتحوت والروابض 7

صور ناطقة للتحوت والروابض

7+10+11

أحمد الجدع

7]

مستر بيرد !

هكذا كانوا ينادونه : مستر بيرد .

أما مستر فأنا أعرف أن معناها : السيد ، أما بيرد فلعل ترجمتها : الطائر ، وإن كانت الأسماء لا تعلل في رأي بعض أهل اللغة .

إذن هو مستر بيرد ، جاءنا من بلاد الإنجليز قاطعاً آلاف الكيلومترات ليدرس اللغة الإنجليزية لطلابنا العرب المسلمين !

شكى بعض الطلاب من هذا المدرس ، وقالوا بأن جميع الأمثلة التي يضربها لهم تطبيقاً على الدروس كلها مثل هذا المثل ومن باب :

I wish to drink whiskey

أحب أن أشرب الويسكي (الخمرة)

أبلغت مدير المدرسة ، فلم يفعل شيئاً ، ويبدو أن المدرسين من ذوي الدم الأزرق يحملون الحصانة حتى ولو استهانوا بديننا .

كانت المدرسة تخصص غرفة واسعة لمدرسي اللغة العربية واللغة الإنجليزية ، وأشهد أن معظم مدرسي اللغة العربية كانوا من المصلين ، ولكنهم كانوا وللأسف الشديد يجلون " مستر بيرد " ويبجلونه ، ويرون أنفسهم أقل شأناً منه ، فإذا كلمه أحدهم باللغة الإنجليزية يرى نفسه قد عمل عملاً عظيماً ، مع أن هذا الإنجليزي كان يتقن اللغة العربية ، وكان حرياً بهم أن يكلموه بها .

كان معظم مدرسي اللغة العربية من فلسطين ، وكان هذا البيرد يفتخر أن والده كان ممن عملوا مع اليهود في بلادنا فلسطين ، ولم يك هذا الفخر مقنعاً لمدرسي اللغة العربية من أبناء فلسطين أن يقفوا منه موقف الكاره والمعاند .

كانت المناقشات بيني وبينه تأخذ منحى الحدة وتميل إلى العداء ، قلت له يوماً إن بلاده إنجلترا لها جرائم في البلاد العربية ، أسوؤها تقسيم هذه البلاد إلى دويلات وعملها الخبيث في ملء فلسطين باليهود ، ثم مساعدتهم على اغتصابها من أهلها ومنحها لهؤلاء القرود من اليهود .

كان يرد عليّ بنزق وغضب ، وذات نقاش وصل النقاش ذروته ، فقلت له : اسمع يا بيرد ، لقد أجرمتم في بلادنا ، ولكل جريمة جزاء ، وسوف يأتي اليوم الذي نفتت فيه بلادكم إلى دويلات : إيرلندا ، ويلز ، اسكوتلندا ، بريطانيا ، وإذا لم نقسمها نحن فسوف يقسمها ويجزؤها آخرون .

انفجر غيظه وأخذ في الصراخ .

قام نفر من المدرسين يلومني وينبهني إلى خطورة أن أعاند وأن أتهور ...

لم ألتفت إليهم ، ألا تستحق فلسطين وقفة مثل هذه ... انظروا إليه كيف أصبح كالفأر عندما غابت السكرة وحضرت الفكرة .

عدوك أسد عندما تكون أرنباً .

إلى متى سنبقى أرانب .

حسبنا الله .

ــــــــــــــــــــــــــــ

[10]

كانت وحيدة بين إخوتها السبعة ، فعاشت مدللة ، يؤتى إليها بكل ما تطلبه ، ويحققون لها جل ما تتمناه ، لا تكاد تتلفظ بطلبها حتى تجده بين يديها ، وهو واحد من جيرانها ، يعرفونه قالباً ولا يعرفونه قلباً ، تغرب مبكراً إلى بلد نفطي ، فحسب أهلها أنه ذو مال غزير ، وذو مقام رفيع .

تقدم لخطبتها ، فظن أهلها أنه " لُقطة " فأسرعوا للاستجابة دون أن يتبينوا .

كانت أيام الخطبة سريعة سرعة الطائرة التي ستقله عائداً إلى بلاد النفط والغنى .

كانت هي غارقة في أحلام الزواج التي تغرق فيها كل فتاة في سنها الغض ، فلم تستبن من صفاته وعاداته وأخلاقه شيئاً !

ما برحت أن حطت هناك ، بعيدة عن أهلها آلاف الكيلومترات ، لا يربطها بهم حتى هاتفاً صامتاً لا يتكلم ، فقد كان مغلقاً في وجهها ، لا يستعمله إلا هو ، وهو وحده ، أما هي فحرم عليها ذلك حرمة الخنازير على المسلمين !

عجبت هي من ذلك ، ولكن فرحة الزواج وأيامه الأولى كانت كفيلة لأن تختلق الأعذار .

كان كل شيء عنده بمقدار ، شعر في شهره الأول أن فتاته تبالغ في شرب الشاي ، وقد تجرأت فطلبت منه أن يأتي لها بالقهوة حتى تشربها معه في السهرة عندما يخلو بعضهم إلى بعض .

انتهرها وقال : الشاي يكفي .

لم يحتمل أكثر من شهر ، جلس إليها وقد كتب لها جدولاً للاستهلاك ، هذه الكمية من السكر لاستهلاك شهر كامل ، وكذا الأرز والبطاطا ... كل شيء بحسبان .

نسي المسكين قطعة الصابون ، فلما رآها تذوب في يديها بأقل من أسبوع تناول العصا وانهال عليها ضرباً وشتماً .

لم تدر المسكينة سبباً لما فعل ، فهي في نظرها لم تقترف ذناً ولم ترتكب جناية ... سألت وهي تبكي : ماذا فعلتُ ... ماذا فعلتُ ؟

نظر إليها نظرة الغاضب وقال : استهلكت قطعة الصابون في أسبوع وقد قررت أنا لها شهراً .

اشتكت ، بكت ... ولكن الغربة مذلة ، والبخل داء .

حسبنا الله .

ـــــــــــــــــــــــــــ

[11]

طغت الاتجاهات القومية واليسارية والشيوعية في أبناء الجيل الذي أنا منه ، وكانت النكبة الفلسطينية الأولى قد أذهلت أبناء فلسطين وغير أبناء فلسطين ، ولكنها كانت على أبناء فلسطين أشد وأقسى .

تخلى الأخ وتخلى الصديق ، فاتجه الناس يبحثون عمن به يستجيرون ، فلم يجدوا غير أهل الضلال ممن أوهموهم أنهم لهم ناصرون .

وفتن الناس بما كانوا يدعونه تقدماً ورقياً ، وأحبوا أن يسيروا في هذا الطريق .

هزيمة في الروح وهزيمة في المعتقد وهزائم في العادات والتقاليد .

تخلت المسلمات عن الحجاب ، وقطعن شوطاً طويلاً في تقصير الملابس التي أخذت تزحف فوق الركبة إلى ما هو أعلى.

ولم يستطع الناصحون والموجهون أن يردوا هذا السيل الجارف عن مجراه .

أما الشعر فحدث عن كشفه وتزيينه ولا تحرج من الحديث فيه .

لم يعد الرجل يخجل أو يحرج إذا كانت بناته قد كشفن رؤوسهن وقصرن ملابسهن ، بل تعدى ذلك إلى أن أصبح الرجال يفاخرون بملابس النساء من الأبناء البنات ! والزوجات ...

وكبرت البنات ، وأنهت اثنتان منهن الدراسة الثانوية في إحدى دول النفط ، وكان لا بد أن يؤدي الوالد واجبه في تعليمهن ، فأرسلهن إلى الجامعة في بلده الأصيل .

غابت الفتاتان أشهراً ، وكان الأب ينام ليله الطويل هادئاً لا يزعجه هذا الغياب .

وأراد الله بهاتين الفتاتين خيراً ، فقد رافقن فتيات محجبات ذوات دين وعفة ، وما كان من هاتين الفتاتين إلا أن سرن في درب الهدى ، فلبسن الحجاب وسترن الجسد والتزمن بالصلاة والأخلاق الحميدة .

وكان لا بد أن يعدن إلى أبيهن وإلى أمهن في الإجازة ، فوصلن المطار والأسرة بالانتظار .

لم تكد الأسرة تعرف البنتين ، وعندما اندفعن للسلام على الأبوين لم يلقيا ما كن يتوقعن من الترحاب ، ولا من الإعجاب .

وصلوا البيت ، فقال الأبوان بصوت واحد : ماذا فعلتن بأنفسكن ، ما هذا اللباس الذي ترتدين ، ألا ترون منظركن البائس في هذا اللباس العجيب .

قالت إحداهن : كنا نتوقع أن تكونوا من المسرورين .

ردّ الأب بغضب شديد ، وقال وفمه يقذف الزبد : لا أرضى لكن هذا اللباس ، ومنذ الغد سوف تعود كل واحدة منكن إلى لباسها الذي غادرت به هذا البلد .

رفضن ، وأصررن .

وأصر وعاند ... فعادت الفتاتان في اليوم التالي إلى جامعتهن .

أخذ الرجل كلما رأى صديقاً من المتدينين يصرخ بوجهه قائلاً : أرأيت ماذا فعل المتدينون ببناتي ، لقد ألبسوهن الحجاب ، لقد أفسدوا عليهن أخلاقهن .

يقول ذلك غاضباً مستنكراً ، والناس ينظرون إليه باستنكار ودهشة ! هل يغضب الأب إذا سلكت بناته درب العفة والإيمان ...

حسبنا الله .