السوريون وشعرة معاوية

حسام مقلد *

[email protected]

 انطلق قطار الثورات العربية بعد ثورة الياسمين التونسية التي فجَّرتها صرخةُ محمد البوعزيزي ـ رحمه الله ـ تلك الصرخة المدوية التي أطلقها بعد أن صفعته السلطة الغاشمة بيد امرأة من أبنائها، وكان ذلك بالنسبة له ولأي إنسان حر منتهى المهانة والإذلال وإهدار الكرامة والاحتقار؛ فثار على ذلك الظلم والجبروت وأعلن رفضه له بطريقته الخاصة بإضرام النار في جسده، ومع اشتعاله اشتعل العالم العربي كله فقد استفاقت الجماهير المغيبة في معظم الدول العربية لتجد نفسها محرومة تماما من الحقوق الأساسية التي منحها الله إياها، وقررتها كل القوانين والمعاهدات الدولية، فلا ديمقراطية ولا حرية ولا كرامة...، وحتى مجرد الأشياء البسيطة العادية التي تلبي الحد الأدنى من متطلبات الإنسان الضرورية ليبقى على قيد الحياة، ويتمكن من الاستمرار في مكابدة متاعبها ـ حتى هذه الأشياء والمطالب التافهة لا يجدها العربي بسهولة!!

وكانت توقعات كثير من المراقبين والمحللين السياسيين وخبراء الاجتماع السياسي تتنبأ بأن سوريا ستكون أسرع البلدان العربية اقتفاء للثورة التونسية، وأن الشعب السوري الحر الأبي سيكون أول الشعوب العربية التحاقا بقطار الحرية؛ فهو أولى وأحق الناس بقيادة الثورات العربية نحو الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، ولم تكن تلك التوقعات ناشئة من فراغ بل اتكأت على كثير من الشواهد والحقائق الحياتية التي يعيشها السوريون منذ ما يزيد عن أربعة عقود من الزمن في ظل قبضة حكم ديكتاتورية شديدة البطش والجبروت، لم يعرف عنها سوى التنكيل الوحشي بكل خصومها السياسيين، كما أن طبيعة النظام الحاكم في سوريا لا تنفك أبدا عن طبيعة الطائفة النصيرية العلوية التي لا تمثل سوى أقل من 10% من السكان!!     

وتسارعت الأحداث وتنقل قطار الحرية قطار الثورات العربية بين محطات كثيرة، فمن تونس لمصر لليبيا لليمن...، لكنه ربما تأخر بعض الشيء في الوصول لسوريا، وعندما وصلها بدا مترددا في السير فيها بنفس القوة والعنفوان اللذين انطلق بهما في الدول العربية الأخرى، واحتار الكثيرون في فهم أسباب هذا التباطؤ والتردد، فمن الناس من أرجع تردد السوريين وتباطؤهم في تفجير ثورتهم إلى طبيعة الشخصية السورية النمطية الميالة إلى الدبلوماسية واللباقة والحفاظ على شعرة معاوية متصلة بين جميع الفرقاء، والحرص على بقاء كل طرق التواصل مفتوحة بينهم...!!

ومن الناس من أرجع تردد السوريين وتباطؤهم في تفجير ثورتهم إلى شدة خوفهم من نظامهم البوليسي القمعي المعروف بشدة بطشه بمناوئيه دون أدنى رحمة، ولعل ذاكرة الشعب السوري ومخيلته الجمعية لم تنس بعد مذبحة حماة في 2 فبراير (شباط) عام1982م حين قمع النظام السوري جماعة الإخوان المسلمين في سوريا، وأباد أكثر من ثلاثين ألفا منهم في مذبحة مروعة لا تقل بشاعة عن مذبحة (سربيرينيتشا) التي ارتكبتها القوات الصربية المتوحشة بحق مسلمي البوسنة والهرسك سنة 1995م، وراح ضحيتها أكثر من عشرة آلاف شهيد مسلم، ونزح بسببها عشرات الآلاف من المسلمين من المنطقة، وتعد هذه المجزرة من أفظع مجازر الإبادة الجماعية التي روَّعت المسلمين في القارة الأوروبية، ومع ذلك فلا تقل عنها إطلاقا بشاعة ووحشية مذبحة حماة التي تعد أكبر مجزرة تحدث للسوريين في العصر الحديث،  حيث تم قمع الانتفاضة الشعبية بقسوة فاجرة خلَّفت وراءها نحو ثلاثين ألف شهيد، وخمسين ألف سجين سياسي، ونحو نصف مليون إنسان وضعوا على اللائحة السوداء، وبالفعل تم تهجير معظمهم وطردهم خارج سوريا تحت وطأة تعذيب أجهزة  القمع السورية المتوحشةّّ، ولا تزال معاناتهم ومعاناة أبنائهم وأحفادهم مستمرة في دول المنفى إلى الآن، وأزعم أن قضية هؤلاء قضية إنسانية ملحة تستحق أن يتدخل في حلها جميع المنظمات العربية والإسلامية والدولية المدافعة عن حقوق الإنسان !!

وانطلاقا من هذه الخلفية لعلنا نتفهم موقف الشيخ (محمد سعيد رمضان البوطي) صاحب الكتاب الشهير (فقه السيرة) فقد تحدث وفقا لهذه الخلفيات التي يعيها جيدا، فظني أنه يحاول بكلامه أن يُبقي على شعرة معاوية مع النظام السوري، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فهو ولا ريب خائف على نفسه من التنكيل الذي سيلقاه لو أيد الثورة السورية، خاصة وهو يعلم أن النظام السوري لا يرقب في مؤمن إلا ولا ذمة!!

لكن عندي أن أغرب من كلام الشيخ البوطي ومفتي سوريا ما رأيناه في قلب العاصمة السورية من مظاهرات تأييد واسعة للأسد وحكومته؛ فطريقة تسيير هذه المسيرات الضخمة المؤيدة للرئيس بشار الأسد، وطريقة حشد الناس لها، ودعوة النقابات المهنية أعضاءها للمشاركة فيها تدل على أن سوريا لا تزال تدار بنفس العقلية التي كانت تدار بها في ثمانينيات القرن الماضي!!

وإذا كان الشعب السوري لا يزال يحتفظ بشعرة معاوية موصولة بينه وبين نظام حكمه، فالعكس صحيح أيضا فها هو نظام الحكم يستمسك هو الآخر بهذه الشعرة ويحافظ عليها، وكان إعلان مستشارة الرئيس السوري السيدة (بثينة شعبان) عن عدد من الإصلاحات من هذا القبيل، فهذا أسلوب جديد تنتهجه الحكومة السورية لتهدئة الاحتجاجات وامتصاص غضب الناس في الشارع، وهي تعلم تمام العلم أن الغالبية الساحقة من السوريين ناقمون عليها ويريدون التخلص منها اليوم قبل الغد، لكنها شعرة معاوية التي تمنعه حتى الآن من الخروج في مسيرات حاشدة من أجل تحقيق هذا الهدف!!

لا شك أن نظام الرئيس السوري بشار الأسد يُواجِه في هذه الآونة ضغوطًا شعبية لم يَسْبِق أن رأى لها مثيلا خلال فترة حكمه، ولن تنفعه ولن تنفع شعبه شعرة معاوية، ولن تجدي هذه الشعرة أية فائدة تذكر لأي أحد بعد الآن، ولا بد للرئيس بشار الأسد إن أراد البقاء في السلطة أن يقدم بكل شجاعة وبسالة على إجراء إصلاحات سياسية واقتصادية واسعة وجوهرية، إصلاحات جذرية وحقيقية يلمسها كل مواطن سوري داخل أو خارج سوريا، وإن لم يبادر إلى ذلك بأقصى سرعة فأحسب أن اليوم الذي سيلقي فيه أبناء الشعب السوري شعرة معاوية من أيديهم ويهبون لتحقيق مصالحهم العليا بطريقتهم الخاصة، والحصول على حقوقهم الإنسانية المشروعة في الحرية والكرامة والديمقراطية ـ أحسب أن هذا اليوم سيكون قريبا جدا، أقرب مما يظن بعض دوائر السلطة في دمشق، فقد تغيرت الأحوال المحلية والعالمية بالفعل، فسوريا اليوم لم تعد تعيش حقبة الثمانينيات!! بل تعيش كغيرها ثورة الإنترنت والسموات المفتوحة!! وعلى عقلاء سوريا وحكمائها الانتباه سريعا إلى هذه الحقائق، وبذل كل ما في وسعهم من أجل مصلحة سوريا والسوريين وتجنيبهم الشرور والفتن، وتوفير الحرية والعزة والكرامة لهم جميعا على اختلاف أطيافهم ومشاربهم... "إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ" [هود : 88].

                

* كاتب إسلامي مصري