مجلس شعب أم مجلس تهريج

محمد فاروق الإمام

محمد فاروق الإمام

[email protected]

يوم الأربعاء.. وبعد انتظار طويل من مطولات الليل السوري الطويل استقبل أعضاء مجلس الشعب السوري من خارج حرمه وقبل نزوله من سيارته السوداء الفارهة الرئيس السوري بشار الأسد، مرحبين بطلته الممشوقة منشرحين لابتسامته العريضة محتضنين قامته المديدة محفين به من كل جانب، تلامسه الأيدي للتبرك وتصدح الحناجر بالهتاف (بالروح بالدم نفديك يا بشار، الله.. سورية.. بشار وبس) مشيعين هذا القائد الذي ما أنجب الدهر مثيلاً له حتى اعتلائه منصة الخطابة، والحناجر لم يتوقف صداحها والأكف تلتهب بالتصفيق وتكاد وجنات الوجوه الغائرة أن تتفجر بالدماء نشوة بتكحيل العيون بلقاء القائد الذي عقمت الأمهات عن إنجاب مثيل له، فهو فريد عصره ووحيد زمانه في عيون هؤلاء العجزة الذين تجاوز أصغرهم الستين من العمر، علماً أن نسبة من هم أقل من 24 سنة في سورية يتجاوزون الخمسين بالمئة!

وكان هؤلاء العجزة يقاطعون خطاب السيد الرئيس بقصائد ومعلقات وأشعار ومديح وإطناب، وعقب كل قصيدة أو معلقة أو شعر أو مديح تلتهب الأكف بالتصفيق، حتى أن ما عددته من فترات التصفيق تجاوز الأربعين مرة، وكنت في كل مرة أنسى ما قاله السيد الرئيس، علماً أن كل ما قاله يتلخص بكلمات ممجوجة سمعناها منه ومن أبيه على مدار واحد وأربعين سنة (سورية تتعرض لمؤامرة دولية، لأنها بلد الصمود والتصدي والممانعة)، ولم أسمع في خطابه كلمة اعتذار أو تشكيل لجنة للتحقيق عما قامت به عناصر الأمن من قتل للأطفال الأبرياء المسالمين في درعا واللاذقية وغيرهما من المحافظات السورية الذين خرجوا في مظاهرات سلمية تطالب بالحرية، وقد صادرها النظام السوري الشمولي منذ ثمانية وأربعين عاماً بموجب قانون الطوارئ والأحكام العرفية، ولم أسمع منه كلمة ترحم على أرواح هؤلاء الشهداء الذين سقطوا برصاص الأمن، أو الإعلان عن يوم حداد على أرواحهم.

أعتذر للقارئ إن قلت أن مجلس الشعب في سورية ما هو إلا مجلس تهريج يعين أعضاؤه من قبل أجهزة الأمن، في مسرحية انتخابية هزلية، بحسب درجة الخنوع والولاء وطول الانحناء، ولعل ما قاله أحدهم بحق الرئيس في ذلك اليوم (الوطن العربي قليل عليك فأنت تستحق قيادة العالم) يؤكد على أن أعضاء هذا المجلس الذين تجاوزوا سن الكهولة إلى حالة من الخرف وفقدان التوازن وعدم التمييز، لدرجة أنك لا تجد من بينهم رجل رشيد يختلف مع كل هؤلاء الذين تجاوزهم الدهر وصاروا دماً شمعية تستحق أن تقام لهم قاعة عرض أراجوزي تحكي عصر الحكواتي التي باتت جزءاً من تراث الشام المندثر!!

انتظر السوريون طويلاً، بعد سماعهم كلمات تخديرية أطلقتها السيدة بثينة شعبان مستشارة الرئيس والسيد فاروق الشرع نائب الرئيس لامتصاص غضبة الجماهير، بأن السيد الرئيس بشار الأسد سيلقي قريباً خطاباً يثلج فيه قلوب السوريين ويحقق لهم كل أمنياتهم وتمنياتهم وطلباتهم في (الإصلاح والتغير، وإلغاء قانون الطوارئ، وإصدار قانون لتشكيل الأحزاب، وقانون عصري للإعلام يطلق حرية الرأي والرأي الآخر، ومكافحة الفساد) وانتظر الناس هذا الخطاب متسامين على الجراح مكفكفين الدمع على فلذات أكبادهم الذين قضوا على يد رجال الأمن التي كان من المفترض أن تحميهم، من منطلق أن الوطن أغلى وأسمى، وأن الشعب يريد الإصلاح والتغيير وعليهم أن يثقوا بما قالته السيدة المستشارة والسيد نائب الرئيس، إلى أن جاء يوم الأربعاء فتوجهت الأعين كلها باتجاه القنوات الفضائية السورية المُقاطعة والمنسية لعقود، تصيخ السمع لما سيقوله السيد الرئيس، الذي راح يتلاعب بالألفاظ والسين وسوف ويفك رموز التآمر التي تحيط بسورية الصمود والممانعة، والمؤامرات التي تحاك ضد القيادة السورية الصلبة التي تحتضن المقاومة الفلسطينية واللبنانية، حتى أصيب الجميع بالذهول والغثيان والإحباط لما يسمعوا من كلمات ممجوجة سمعوها منذ أربعة عقود وهي تتكرر في كل مناسبة، حتى حفظها المواطن السوري عن ظهر قلب هو وأولاده وأحفاده.

بعض المستمعين لم يتمالكوا أعصابهم في اللاذقية فخرجوا إلى الشوارع مطالبين بالحرية والإصلاح والتغيير، وكان رجال الأمن لهم بالمرصاد، ليس بالهروات أو قنابل الغاز أو الرش بالماء كما تفعل كل أجهزة الأمن في العالم، فتلك أساليب قد باتت من الماضي عند أمن النظام وهي مكلفة لخزينة الدولة، فالرصاص أرخص ويؤتي ثماره الفورية، وهذا ما كان فقد حصد رجال الأمن برصاصهم العشوائي أرواح ما يزيد على عشرة متظاهرين، كما أبلغ شهود عيان فضائيات (بي بي سي، والفرنسية، والجزيرة، والعربية) في غياب كمرات الصحافة المستقلة والمحايدة والمراسلين عن تصوير هذه المشاهد ونقل أحداثها.

هذا هو مجلس الشعب السوري التهريجي الذي ما قال يوماً للأسد الأب أو الأسد الابن لا، وهذا هو الرئيس السوري الذي لا تتسع لقيادته فضاءات العرب، وهذا هو الإعلام السوري المخادع الكاذب، وهذه أجهزة الأمن السورية التي تستهين بالإنسان السوري وتحتقره، وهذا هو الشعب السوري المقموع الذي سُدت كل الأبواب في وجهه ويصارع لانتزاع الحرية سلمياً من يد مغتصبيها، يريد تحقيق مطالبه سلمياً ويصر عليها بعيداً عن أي عنف، متحملاً ضراوة النظام وعصاه الأمنية الغليظة، موطن النفس على تقديم التضحيات لانتزاع الحرية مهما غلت، فللحرية الحمراء باب بكل يد مضرجة يدق!!