قراءة في ثورات التغيير العربية
قراءة في ثورات التغيير العربية
د.
رمضان
عمر
رئيس رابطة أدباء بيت المقدس / فلسطين
عندما تدفق شلال التغيير هادرا من أعالي مصبات الشمال في تونس الخضراء ، حاملا معه بذور التأثير والاستجابة والتغيير، زغردت له أسارير الشعوب ، وهللت ، وكبرت . ولم تطل فترة الانتظار والاستجابة ؛إذ سرعان ما وصل الهدير إلى ميدان التحرير في مصر، مما شكل انعطافة هامة في دلالات هذا التدفق الثوري ، ومجريات هذا المسار الإصلاحي الذي أفضى إلى حالة فيضان عارمة ؛ وكأن الشعوب التي استمرأت -عبر عقود مضت- ذل الخنوع والهوان المصبوب صبا على رؤوس المستضعفين، قررت فجأة أن تجرب منطق العصيان والتمرد بعد أن قرر حاكمو هذه الشعوب أنها مهما كثرت وتنامت فستبقى خاوية لا وزن لها.
ولم يستطع لهيب الرمل الحارق في بلاد النفط والعقائد أن يكون له أية قيمة تأثيرية في بناء مشروع سياسي نهضوي لأمة ينيف عدد أفرادها على المليار؛ لكنها غطت في سبات عميق تحت ستار حديدي من القهر والاستبداد.وكاد المتابع لحالها أن يقرا عليها فاتحة الكتاب ويسدل عليها ستار الهزيمة والغياب ، مودعا إياها وداعا لا لقاء بعده .
لكنها سرعان ما اكتشفت سر فاعلية الفيس بوك والهاتف النقال والفضائيات غير الرسمية، وما قدمته ثورة الاتصالات الحديثة من فاعلية مخيفة لتحقيق ما لم يكن ممكنا ، فجربت حظها في أدوات لم يسبق أن جربتها من قبل ، ف "رب رمية من غير رام"؛ فانشقت لها الأرض عن انجازات عظيمة ، فاجأت الشرق، وأربكت الغرب ، وفتحت بابا واسعا ولما يزل مفتوحا.
مشاهد تصويرية عديدة ، وأحداث يومية متعاقبة ،وقراءات وتحليلات كثيرة تواكب ما يجري دون أن تضع له تفسيرا قاطعا فاصلا ، ليبقى السؤال الكبير المتشعب المتولد المتجدد : ما الذي يجري ؟؟!!
وفي محاولة جادة لقراءة ما يجري(وهنا لا بد من التأكيد على أن
فعل القراءة فعل تحليلي نقدي ، مبني على رؤية تفسيرية ذات بعدين: فكري وسياسي .يغوص في أعماق التجربة بحثا عن دلالات عميقة في فضاءاتها البعيدة) ، يحاول هذا المقال رصد التحولات الجذرية في طبيعة هذه الثورات ، والوقوف على إرهاصاتها وآثارها.بعيدا عن الانفعالية التي قد يكون لها ما يبررها حينما نتحدث عن تعطش لملايين لفجر الحرية ، لكن هذه الانفعالية قد تكون صادمة إن وظفت توظيفا استراتيجيا ، فالاستراتيجيات تحتاج الى حالة من إعمال الفكر والنظر ، والتدقيق في الحالي والاستقبالي وتناول القضية تناولا موضوعيا يضمن لها سلامة التحليل .
وهنا تحضرني جملة من المقدمات تعمل على إضاءة المشهد وتوسيع بؤرة التحليل فيه؛ ذلك أن للثورات منطقها وقواعدها، وأنواعها وأسبابها و ولكل حدث قاعدة بيانات تحدد ماهيته من خلال جغرافية المكان ودلالات الزمان وبصمات صانعه وخلفياته الفكرية والايديلوجية .
-كان المنطق السائد -في منطقتنا العربية -منذ آخر حرب جرت (عام)67 وقيام نظم دكتاتورية خالصة الولاء للإدارة الأمريكية أن لا أعداء لهذه الدول إلا شعوب هذه الدول ،فالأمريكان- مهما- فعلوا- يظلون قبلة المناشدة وأولي الأمر في الحل والعقد، والصهاينة -مهما أجرموا –فإنهم شركاء أبديون في السلام الاستراتيجي ، ولا ثورات داخلية أي لا شعوب متحركة وفاعلة ، ولا استراتيجيه غير استراتيجيه الأمن والسلام التي يحددها الحاكم وفق تفاهمات عالمية فرضتها الوصاية الأمريكية حماية للسرطان الصهيوني المتجذر في المنطقة .
وكاد هذا المنطق السياسي أن يصبح واقعا بدهيا سائدا لولا صحوة شعبية عاجلة عصفت -مرة واحدة- بكل خيوط المؤامرة؛ فخر السقف على رؤوس المتآمرين ، وتهاوت أركان البيت العنكبوتي وانكفأت جرار العسل الوردية في سياسة القمع الشعبي لدى حكومات الديمقراطية الأمريكية.
فجر محمد البو عزيزي الثورة، لكنه ما كان ليعلم أن شظايا التفجير ستحمل معها بذورا من التغيير تتجاوز حد إسقاط النظام إلى الحد الذي يمكن تسميته قلب طاولة المنهج الفكري العالمي في السيطرة والتأثير.ونشوء منطق جديد سيسود المنطقة مخالف للمعايير التي فرضتها الوصاية الأمريكية في سياسات الدول العربية "الخارجية والداخلية" . اعني انفتاح المنطقة على أعداء خارجين وإعادة الاعتبار للجيوش النظامية والحروب الإقليمية ، هذا من نحو ومن نحو آخر ميلاد مشروع سياسي عربي مناهض وفاعل وقوده الشعب وأركانه أسس ديمقراطية غير مترجمة أمريكيا .
وهذا يعني أن ما كان سائدا من استتاب امني لصالح المشروع التوسعي الصهيوني لم يعد قائما ، وان مستقبل المنطقة أصبح رهين هذه الإرادة الشعبية التي تحققت بعد أن آمن التونسيون ببيت شاعرهم
إذا الشعب يوما أراد الحياة فلا بد أن يستجيب القدر
جاء ذاك اليوم الذي أرادت الشعوب فيه الحياة فتجلى لها القدر في سرعة البرق ، لكن الإرادة- هنا- لم تكن بحثا عن مخرج انتحاري بعد أن بلغت القلوب الحناجر فقرا وجهلا .بل إرادة الوعي السياسي الباحث عن موقعية سياسية مشرفة لأمة تريد أن تحقق ذاتها بعيدا عن التبعية والاستعباد ، فعنوان الثورة لم يكن –أبدا- ثورة من أجل رغيف الخبز ، بل ثورة لها مطالبها المخيفة تحت عنوان واضح " إسقاط النظام" وإعادة الهيبة لخيارات الشعب وحقوقه الفعلية في التعبير والحياة والتمثيل السياسي ، ومن هنا، فإن رصيدها قوي وافقها ممتد وغاياتها سامية.
إنها ثورة شبابية ذات روح فاعلة ، وأدواتها الكترونية معرفية ذات بعد أكاديمي فكري أي انها ليست عسكرية تخريبية كما يحاول أعداؤها تصويرها وهي ثورة شاملة عارمة اختلطت فيها الدماء والأفكار لكنها وحدت الهدف" بناء نظام سياسي متحرر من التبعية".
وهي ليست دينية بالمفهوم الضيق للدين ،وان كانت تحتمل بذورا ايديلوجية تخيف المترقبين من إمكانية وصول الإسلاميين إلى سدة الحكم إلا أن أحدا لم يقل إن ما نقوم به يعبر عن رؤية حزبية لتيار سلفي أو إخواني . مع أن تيارات إسلامية كثيرة وافقت على نهج الثورة ولحقت بركب الثائرين .
وهي ثورة متحركة إلى الأمام ذات سلسلة تتابعية ،بدأت ولما تنته بعد ، فما زالت المطالب لم تتحقق كما أراد الثائرون لكن المحارب لم يلق سلاحه فكل أسبوع يشهد ميدان التحرير مسيرة مليونية وتغص ساحات تونس بالثائرين وشعار الثورة لم يتغير الشعب يريد تعيير النظام وبناء نظام دستوري جديد ، لن يقبل ان تسرق ثورته ، وهو في جاهزية كاملة للنزول إلى الشارع كما فعل أول مرة كلما شعر أن الكواليس من وراءه تهتز منذرة بشبهات التخطيط لسرقة الجهد المقدس.
وهي ثورة متشظية، لن ينجو منها نظام ، ولن تقتصر على قطر ؛فالنظام العربي الدكتاتوري كل لا يتجزأ ،ولئن بدأت الثورة في تونس؛ فإن نهايتها لن تكون في ليبيا مما يؤكد حتمية القول: إن تغييرا جذريا سيطال المنطقة ولا بد من إعادة الخريطة السياسية لتلائم المشهد الجديد.
أما الغرب فلم يعد قادرا على الحسم كما كان سابقا ، فالعراق وأفغانستان كفيلتان لإنهاك حلف النيتو، وشل قدرة هذا الحلف عن مواصلة استبداده في استهداف الشعوب ما دامت الشعوب قد اكتشفت طاقاتها ،وخداع الأمم المتحدة وقراراتها لم يعد خافيا على أحد .ولن تتوجه الشعوب لهذه القرارات التي لا تكفل لأحد شيئا.فلا وصاية دولية على مقدرات الشعوب بعد اليوم.
سيقول قائل : إن الغرب لن يترك هذه الثورات لتهدد وجوده ، وسيسعى جاهدا للالتفاف عليها وحرفها عن مسارها حتى يكون مآلها كمآل ثورات الخمسينات .ولكن مع مشروعية هذا القول إلا أن دلالته غير حتمية.لذا أجدني أسارع إلى القول :
أما أن الغرب سيحاول جاهدا إفشال هذه الثورات، فهذا كلام لا غبار عليه ،لكن قدرة الغرب في السيطرة على حركة الشارع العربي مشكوك فيها ،فالشعوب وان لم ترفع شعار التخلص من السيطرة الغربية في حركتها الثورية الأخيرة إلا أن جوهر هذه الثورة متعلق بالخلاص من تلك السيطرة ، وحركة الشعوب تعي هذه القضية وعيا تاما، ولذا فان الحركة الثورية لم تعلن انتهاء المعركة ، بل تصر على استكمال رحلة التغيير للتخلص من كل ما يربط البلاد بسيطرة الأجنبي ، وهذا يحتاج إلى فترة للتخلص منه نهائيا.
لكن في المنظور القريب ، فان إيجاد دولة مؤسساتية تضمن للشعب حق التعبير والتمثيل سيجعل الشعوب قادرة على خلق ذاتها وإعادة تأهيل طاقاتها بحيث تكون – مستقبلا - قادرة على وضع حد لذلك الإخطبوط الغربي . فالمناخ الذي ستخلقه حركة التغيير الثورية على المستويات كلها سيمكن هذه الأمة من بناء إستراتيجية نهضوية على غرار الاستراتيجيات الكبرى، والعالم الغربي لم يعد قويا كما كان فقد نخرت فيه عوامل التفكك والانهيار ؛ مما يعني أن إمكانية التحرر والانعتاق ليست مستحيلة بل شبه مضمونة وهذا ما تعول عليه الثورات من خلال إصرارها على مواصلة السير نحو القمة .