الحركة الإسلامية وفقه اللحظة

جمال زواري أحمد ـ الجزائر

[email protected]

كنا فيما مضى نطالب الحركة الإسلامية أن تحسن نوعا من الفقه يسمّى فقه المرحلة ، حتى تستطيع أن تواكب المتغيرات المتسارعة من حولها ، وتتأقلم مع إفرازاتها وتلبس لها لبوسها ، وهو فقه يبقى مطلوبا منها على طول الوقت ، أما الآن وقد تسارعت الأحداث أكثر وزادت وتيرة التحولات ، مما يحتم على الحركة الإسلامية أن تحسن نوعا آخر من الفقه أدق وأعمق من فقه المرحلة يمكن أن نسميه فقه اللحظة ، بحيث تكون على أهبة الاستعداد للتعامل الإيجابي والصحيح والدقيق والسريع كذلك مع الأحداث والمتغيرات المفاجئة ، التي فرضها واقع جديد ، تجددت فيه الوسائل وتطورت فيه الأساليب ، الأمر الذي يحتم على الحركة أن تتجاوز الطرق الكلاسيكية البطيئة في إبداء الموقف وتحديد الخيار ، وأن لا تبقى حبيسة الرؤى القديمة المبنية على التوجس الدائم واللاثقة ، فتبقي نفسها محصورة في زاوية الاضطرار في تعاملها ومواقفها وخياراتها ، فيطغى لديها الاضطرار على الخيار ، بل عليها أن تواكب الفرص التاريخية التي لا تتكرر كثيرا ، فتجعل منها مناسبة لتثبيت صورتها الصحيحة والمشرفة والمطمئنة والشريكة ، لدى كل الفئات ، والتخلص عمليا من الصورة القاتمة والمخيفة وغير المطمئنة والإقصائية والمهيمنة ، التي عملت الأنظمة القمعية خاصة على ترسيخها لدى الكثير من مكونات الرأي العام لسنوات عدّة ، وقد أثبتت الحركة الإسلامية التونسية ذلك ، وأتصور أنها قد نجحت إلى حد الآن في هذا الامتحان أثناء الثورة وبعدها ، رغم غيابها عن المشهد التونسي السياسي وحتى الدعوي والاجتماعي لمدّة ليست بالقصيرة ، كما أن الحركة الإسلامية المصرية ممثلة في الإخوان المسلمون كذلك كانت موفقة إلى حد كبير في تطبيقها العملي لفقه اللحظة الذي نتحدث عنه منذ بداية الثورة المصرية وأثنائها وبعد انتصارها ، فكان لذلك الأثر الإيجابي لدى حتى الفئات التي كانت مناوئة للجماعة إيديولوجيا وفكريا وسياسيا ، فأصبحت تعبر صراحة عن إعجابها ورضاها واطمئنانها ، وتعترف بأنها كانت ضحية حملات التشويه والتخويف والتشكيك التي كان يقوم بها النظام السابق ، ليضمن بقاء الجدر والحواجز بين الإخوان وبين بقية مكونات المجتمع المصري السياسية والاجتماعية والثقافية وحتى الدينية ، ولعل انكشاف تورط وزير الداخلية السابق في تفجير كنيسة القديسين ومحاولة توريطه واتهامه لعناصر ومنظمات إسلامية يوضح هذا الأسلوب الذي كان متبعا ، ليبقي الهواجس القبطية من كل ماهو إسلامي قائما ، الأمر الذي كذبته الثورة المصرية عمليا بحيث لمدة ثمانية عشر يوما والأمن غائب تماما ورفع الحراسة الأمنية عن الكنائس ، لم تمس أي كنيسة ولم يسجل أي اعتداء مهما كان صغيرا على أيّن منها .

إن الأحداث المتسارعة التي عاشتها وتعيشها بعض الأقطار ، وما أنجر وينجر عنها من نتائج وآثار ، تحتم على الحركة الإسلامية ــ كما قلنا ــ أن لا تكون بعيدة عن مسرحها ، ولا ينبغي أن تتعامل معها بمنطق (شاهد ما شافش حاجة) ، ولا أن تصم أذانها عنها أو تضع رأسها في الرمال ، وإنما لا بد لها بحكم مسؤوليتها الشرعية والوطنية أن تكون حاضرة ومتفاعلة معها ومبادرة كذلك باقتراح الحلول الناجعة ، لتجنب الآثار السلبية والكارثية لمثل هكذا أحداث.

كما لا ينبغي لها أن تتخلى عن مسؤولياتها في ذلك أو تتخلف عن القيام بدورها الإيجابي ، تحت وقع منطق فوبيا الإسلاميين  ، أو التخويف من حكم لخوانجية على حد تعبير الرئيس التونسي الهارب ،  الذي تستعمله بعض الأنظمة ، للحيلولة بينها وبين القيام بدورها المنوط بها ، خاصة في المحطات الحرجة والمنعرجات المفصلية الحاسمة .

هذا الدور والحضور ليس بالضرورة أن يكون عن طريق إثارة الشغب والهرج والمرج والحرق والتدمير كما يريد البعض ، فالحركة الإسلامية وأبناؤها هم من أحرص الناس والفئات على أوطانهم واستقرارها وأمنها وتنميتها وازدهارها وتفويت الفرصة على أعدائها والمتربصين بها ، وفي نفس الوقت هم من أحرص الناس على حريتها وسيادتها واستقلالها وتخليصها من الظلم والقمع والاستبداد والتضييق والتوريث والجملوكية.

فدور الحركة الإسلامية لا ينبغي أن يركب الموجة فقط ، ويستثمر في الأحداث ويقطف ثمرتها ، فهذه انتهازية نبرأ بالحركة الإسلامية أن تفعلها ، وإنما يبدأ من قبل ، وذلك بقوة اقتراحها وواقعية مبادراتها ومساعيها وحلولها ، ومشاركتها الفاعلة وتضحياتها وتحركها الإيجابي وتحملها للغرم ، لتحقيق تطلعات الشعوب ، للحيلولة دون وقوع الكارثة ــ لا قدّر الله ــ .

لتكون بذلك أهلا  وجديرة ومن حقها المشاركة في الغنم العام وجني نصيبها من النتائج الإيجابية للواقع الجديد ، هذا الغنم والنصيب نقصد به قانونية تواجدها وحرية عملها ورفع الغبن والظلم والتشريد والسجن والملاحقة عن أبنائها ، وفرض نفسها شريكا مهما في ساحة العمل والحراك الوطني ، ولا نقصد به غنما ونصيبا ماديا وجزء من الكعكة كما يقال .

لأن تخلف الحركة الإسلامية عن فقه اللحظة ، سيؤخر مسيرتها أعواما وسيضرب مصداقيتها في الصميم لدى الرأي العام ، وسوف يكون حتما وبالا عليها وعلى مشروعها ، وسيستنزف ذلك الكثير من جهودها وأوقاتها في حملات تبرير هذا التخلف والتباطؤ ، عوض أن تصرف كل ذلك في استثمار الواقع الجديد ومشاركتها في تشكّله وتوجيهه نحو الأصلح والأفضل ، برأس مرفوع ونفس مطمئنة ، لأنها كانت شريكا في صناعته ، بعد أن فقهت بحق لحظتها ولحظته ولم تتأخر عن الحدث أو تتثاقل في التعامل معه أو تتلكأ في التفاعل معه بإيجابية .

فالمطلوب من الحركة الإسلامية إما أن تصنع الحدث وإما أن تشارك في صناعته وإما أن تتعامل معه بذكاء وعمق ودقة وحكمة ، وتسعى جاهدة لصرف وجهته وتحويل تياره لصالح الأوطان والأمة والشعوب ، وهذا طبعا لا يتم بشكل صحيح إذا لم تستطع أن تفقه اللحظة ، وبقيت تحشر نفسها في زاوية ضيقة لا تخرج خياراتها إلا تحت ضغط إحدى مخافتين ، إما مخافة أن تتورط بمفردها في مواجهة غير مأمونة العواقب عليها وعلى الأوطان والشعوب ــ وهي مخافة مشروعة لا شك ــ ، فتعطي بذلك الفرصة لخصومها وأعدائها ، خاصة الأنظمة القمعية المستبدة القائمة أساسا على فزاعة الإسلاميين ، وتقدم نفسها للغرب تحديدا أنها هي جدار الصد الأول والحارس الأمين ضد إمكانية سيطرة الإسلاميين على السلطة في المنطقة ممّا يهدد المصالح الغربية ، وقد ظلت العديد من هذه الأنظمة تقتات من هذه الفزاعة أو قل من هذه الكذبة الكبيرة ، وتضمن استمرارها بل وخلودها من خلالها ، فيطرحون أما م الغرب ثلاثة خيارات لا رابع لها ، إمّا أن يبقوا هم في السلطة للأبد وإمّا سيطرة الإسلاميين وإمّا الفوضى ، فكسبوا بذلك سكوت الدول الغربية عن انتهاكاتهم الكارثية لحقوق الإنسان وقمعهم للحريات والاستمرار الأبدي لقوانين الطوارئ ، وارتكابهم لجرائم يشيب لهولها الولدان في حق شعوبهم ، يسكتون عن أفعالهم المشينة هذه كلها ماداموا ــ في تصورهم أو كما أقنعتهم هذه الأنظمة ــ يحولون دون هيمنة البعبع الإسلامي الذي سيطيح بمصالحهم في المنطقة ، كما ثبت بالدليل العملي أن النظامين التونسي والمصري كان يفعلانه لآخر لحظة ، وقد لحق بهما نظام العقيد بنفس السيناريو تقريبا.

وإمّا مخافة التخلف والتأخر والتثاقل والتلكؤ عن حركية الشعوب تحت حجة عدم ضمان النتائج أو الخشية من دفع الضريبة مضاعفة ، دون تحقيق الأهداف المرجوة ، فتكون أكبر الخاسرين ، فيأتي فقه اللحظة ــ الذي نتحدث عنه ــ وذلك بحسن قراءتها للحدث وتفصيلاته ودوافعه ومكوناته ، وكذا حسن التفاعل والتعامل والتكيف معه بشكل سريع وآني ولحظي ، فتكون نتيجته خير وتمكين وتطور ونجاح وضمان وجود واحترام وتقدير وتوسيع دوائر القبول للحركة الإسلامية ومشروعها وكوادرها وأبنائها ، وفرض نفسها شريكا مسؤولا لا يستطيع أيّن كان إقصاءه أو تهميشه أو استبعاده.