الجمل الموسيقية (76)

(المقال الأخير)

من أساليب التربية في القرآن الكريم

د.عثمان قدري مكانسي

[email protected]

الموسيقا في القرآن حركة متناغمة ، تتولّد عن التناسق في الجمل ، والفواصل القرآنية ، فتتحرك لها القلوب ، وتطرب لها الجوارح ، فتؤلف مع المعنى تساوقاً  تهتز له النفوس الواعية فهماً وتآلفاً ، والنفوس العاديّة تآلفاً فقط . .

فالسورة القصيرة تتجلّى فيها الجمل الصغيرة التي تمتاز بما يلي :

1  ـ  الوزن الواحد أو المتقارب .

2  ـ  القافية الواحدة أو المنسجمة(1) .

3  ـ  الحروف المتقاربة همساً ، وجهراً وقلقلة ، وصفيراً . . وتكراراً ، وليناً .

ـ فالمثال على الميزة الأولى سورة الأعلى في قوله :

(( سَــبِّــحِ اسْــمَ رَبِّــكَ الْأَعْـــلَــى (1) الَّــــذِي     خَــــلَـــقَ      فَـسَــوَّى (2)

وَالَّـــذِي     قَـــدَّرَ     فَــهَــدَى     (3) وَالَّـذِي أَخْـــرَجَ الْــمَـــرْعَــى (4) ))(2)

(( وَنُــيَــسِّــرُكَ    لِلْــيُــسْــرَى     (8) فَـذَكِّـرْ  إِنْ   نَـفَعَتِ   الذِّكْرَى (9) ))(3)

(( سَـيَـذَّكَّـرُ    مَـنْ    يَـخْـشَـى   (10) وَيَـتَــجَـنَّـبُــهَـا     الْأَشْـقَـى (11) ))(4)

وكذلك سورة الغاشية :

(( وُجُــوهٌ  يَــوْمَــئِــذٍ  نَــاعِــمَــةٌ (8) لِــــــسَــعْــيِــــــهَــا  رَاضــِيَــــةٌ (9)

فِــي      جَــنَّــةٍ     عَــالــِيَــةٍ   (10) لَا تَــسْـــمَــعُ فِـــيــهَــا  لَاغِـــيَـــةً (11)

فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ (12) ))

(( فِــيــهَــا سُــرُرٌ مَــرْفُــوعَــةٌ (13) وَأَكْــــــــوَابٌ     مَــــوْضُــــوعَـةٌ (14)

وَنَــمَــارِقُ       مَــصْــفُــوفَـــةٌ (15) وَزَرَابِـــــيُّ    مَـــــبْـــثُـــوثَـــةٌ (16) ))

(( أَفَلَا يَنْظُرُونَ

إِلَـى الْإِبِـلِ   كَــيْــفَ    خُـلِـقَـتْ (17) وَإِلَى   السَّـمَـاءِ   كَـيْـفَ   رُفِـعَتْ (18)

وَإِلَى    الْجِبَالِ   كَيْفَ   نُصِبَتْ (19) وَإِلَى  الْأَرْضِ  كَيْفَ   سُطِحَتْ (20) ))

(( فَــذَكِّــرْ إِنَّــمَا أَنْــتَ مُــذَكِّــرٌ (21) لَـسْـتَ       عَــلَيْهِمْ      بِمُسَيْطِرٍ (22)

إِلَّا    مَــنْ     تَـوَلَّى     وَكَـفَـرَ (23) فَـيُــعَـذِّبُــهُ اللَّهُ الْــعَـذَابَ الْأَكْــبَــرَ (24)

إِنَّ       إِلَـيْــنَــا       إِيَـابَــهُــمْ (25) ثُــمَّ إِنَّ عَــلَــيْــنَــا حِــسَابَهُمْ (26) ))(5)

ـ والمثال على الميزة الثانية ، سورة الإخلاص التي تنتهي فاصلاتها بحرف واحد هو الدال ، وهو حرف متفجر شديد ، فيه قلقلة كبرى .

وسورة الناس ، التي تنتهي بحرف السين في كل آياتها وهو حرف همس ، فيه صفير متقطع يوحى بالاستمرار لتعدده ، ويساعد على التنفيس .

وسورة الفلق التي تراوحت فاصلاتها بين القاف والباء والدال ، وهي من حروف القلقلة ، وفيها انفجار بعد احتباس ، جاءت أولاً بحرف القاف ، وهو حرف استعلاء يخرج من أعلى الحلق وآخره ، ثم حرف الباء من الشفة مع ملء الفم بالهواء ثم تفجيره ، ثم الدال يخرج من بين القواطع الأمامية ومقدمة اللسان ، وقد جاءت القاف وهي الأقوى أولاً ثم الباء وهي الأوسط في الانفجار والقوة ، ثم الدال . . ترتيب بديع . . .

ـ والمثال على الميزة الثالثة سورة التكاثر فيها الراء المتصفة بالتكرار وكأنها عجلة تدور ، وسورة العصر مثلها .

وسورة الفيل المنتهية كل آياتها بحرف اللام وهو حرف لَيِّنٌ يسبق حرف لين (مدّ) مما يوحي بكثرة الفيلة ، وشدة التضليل ، وكثافة الأبابيل من الطيور ، والحجارة المقذوفة ، والأثر الشديد الذي خلّفه الرمي في ((مأكول)) .

وسورة الهُمَزَة تتقارب فيها مخارج حروف الفاصلة . فالزاي والدال والميم مخارجها إما من الشفة أو قريباً من مقدّمة الفم ، وتتراوح بين صفير الزاي ، ودمدمة الميم ، وقلقلة الدال .

وسورة الماعون فيها حرف الشين المعروف بالتشفي في كلمتي قريش ، الشتاء ، كما أن فاصلتها تتراوح بين التاء والفاء ، وهما حرفا رخاوة وهمس .

فإذا جئنا إلى السور المتوسطة فإنها لا تقل موسيقية عن السورة الصغيرة ففيها يشيع القسم ، والتناسق في الوزن  وحجم السورة ، وأحياناً وحدة الفاصلة كقوله تعالى في سورة الذاريات :

(( وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا (1) فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا (2) فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا (3) فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا (4) إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ (5) وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ (6) وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ (7) إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ (8) يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ (9) ))(6) .

وقوله تعالى : (( وَالطُّورِ (1) وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ (2) فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ (3) وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ (4) وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ (5) وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ (6) إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ (7) مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ (8) يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا (9) وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا (10) ))(7) .

ففي هذه الآيات فواصل متشابهة وأوزان متقاربة أو واحدة ، مما يولد الموسيقا الداخلية في وجدان السامع ، فينفعل مع الكلمات وزناً ومعنى وهذا أسلوب من أساليب التعليم التي بدأ العلماء يتحدثون فيها ، وقد سبق القرآن إلى ذلك بأكثر من قرون وآباد .

وسورة الشعراء مثال صارخ على توافق أوزان الجمل  وعلى تقارب الفاصلة ، فالسورة على ضخامة عدد آياتها (227) آية تجد الفاصلة فيها تتراوح بين النون والميم ، وهما حرفا إذلاق وتوسط في الرخاوة .

أما السور الكبيرة الطوال : فمثالها سورة الأعراف التي تجد فاصلتها تترواح بين النون وهو الأكثر والميم .

ولا نغوص كثيراً فيها إلا أننا نقف بك على أواخر سورة البقرة من الآية 282 إلى آخر السورة ، فإنك تستطيع أن تقف عند كل معنى من آية الدين مثال ذلك :

(( وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا

وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ

ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ

وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ

وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا . . . )) وهكذا دون أن تشعر بانقطاع المعنى وتلمس موسيقا واضحة تنبع من الداخل .

واقرأ الآية الأخيرة من سورة البقرة لتلمح بوضوح الموسيقا الداخلية :

(( لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا

لَهَا مَا كَسَبَتْ ، وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ

رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا ، إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا ))(8) .

(( .... وَاعْفُ عَنَّا ، وَاغْفِرْ لَنَا ، وَارْحَمْنَا أَنْتَ ... ))(9) .

فأنت تلاحظ تقطيعاً عروضياً والعروض موسيقا صدحت ـ من خلاله ـ شعراء العرب ، فكان الشعر بحق ـ كما قال الفاروق عمر رضي الله عنه ـ ديوان العرب ، ووصل إلينا من شعرهم أضعافُ أضعافِ ما وصل من نثرهم فالشعر موسيقا ، والنثر ليس كذلك .

وأنت تقرأ القرآن تجد بعض أوزان الشعر ، وليس القرآن بالشعر ولكنّه نسيج وحده إنما فيه هذه الأوزان التي تجعلنا نتنغّم بها كما نتنغّم ببيت من الشعر .

ـ لاحظ معي هذه الآية :

(( كَلَّا            لَئِنْ             لَمْ             يَنْتَهِ             لَنَسْفَعَنْ             بِالنَّاصِيَةِ ))(10)

/5/5         //5             /5            /5//5           //5//5              /5/5//5    

مــسـتَــفْــعِــلُـــن           مــســتـــفـــعـــلـــن           مُـتَـفْـعِـلُـن          مـسـتـفـعـلـن

فهذا من مجزوء الرجز ، ولكنّه جاء في جزء من آيه .

ـ ولاحظ كذلك هذه الآيات :

(( تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1)

مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ (2) ))(11) فالوزن فيها واضح تماماً .

ـ واقرأ متمماً معي  هذه الآية  :

(( نَاصِيَةٍ           كَاذِبَةٍ           خَاطِئَةٍ (16) ))(12)

/5///5          /5///5         /5///5

فاعِلَتُن          فاعِلَتُن          فاعِلَتُن

ومن الموسيقا في القرآن الكريم ظاهرة التكرار :

أ   ـ  (( فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ )) في سورة الرحمن .

ب ـ  (( الْحَاقَّةُ (1) مَا الْحَاقَّةُ (2) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ (3) ))(13) ،

(( الْقَارِعَةُ (1) مَا الْقَارِعَةُ (2) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ (3)  ))(14) وأمثالهما كثير .

جـ ـ  تكرار بعض الآيات كقوله تعالى : (( سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ (79) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (80) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (81) ))(15) .

ولو كنتَ ذا أذن موسيقية لرأيت في القرآن الكريم من هذا المنوال كمّاً هائلاً وموسيقا رائعة، فكن من الذين يتدبرون القرآن بكل أحواله تجد العجب العجاب .

ـ وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .

أسأل الله تعالى بفضله وكرمه أن ينفعني وإخواني بهذا الكتاب ، وأن يجعله في صحائف أعمالي ، فأنا كثير الذنوب ، متسربل بالعيوب ،،، ولا يستر عوراتي ولا يغفر زلاتي إلا ربي سبحانه وتعالى ، فهو العفو الكريم الذي أرجوه أن يرحمني برحمته ويبعدني عن النار بلطفه ويدخلني الجنة بجوده وكرمه .

الفقير إليه تعالى عبده الراغب فضلَه : عثمان قدري مكانسي

                

(1)    كالميم والنون .

(2)    سورة الأعلى ، الآيات : 1 ـ 4 .

(3)    سورة الأعلى ، الآيتان : 8 ، 9 .

(4)    سورة الأعلى ، الآيتان : 10 ، 11 .

(5)    سورة الغاشية ، الآيات : 8 ـ 26 .

(6)    سورة الذاريات ، الآيات : 1 ـ 9 .

(7)    سورة الطور ، الآيات : 1 ـ 10 .

(8)    الآية 286 من سورة البقرة .

(9)    مكرر الآية 286 من سورة البقرة .

(10)   انظر : سورة العلق ، الآية : 15 .

(11)   سورة المسد ، الآيتان : 1 ، 2 .

(12)   سورة العلق ، الآية : 16 .

(13)   سورة الحاقة ، الآيات : 1 ـ 3 .

(14)   سورة القارعة ، الآيات : 1 ـ 3 .

(15)   سورة الصافات ، الآيات : 79 ـ 81 ، وفي مدح إبراهيم  109 ـ 11 ، وفي مدح موسى وهارون 120 ـ 122 ، وفي مدح آل ياسين 130 ـ 132 ويمكن العودة إلى ظاهرة التكرار في هذا البحث لتعيش موسيقاه المعبرة .