وما أدراك ما الاستبداد؟
عبد الرحيم صادقي
[email protected]
يزداد الاستبداد بقدر ازدياد دناءة النفس، ففي الاستبداد اجتمع الشر كله. ففيه
الكبر والتجبر، وفيه الزهو والغرور، وفيه الخيلاء والتباهي، وفيه الاحتقار والأثرة،
وفيه التعالي بغير وجه حق، وفيه العزة بالإثم، وفيه ترك المشورة وطلب النصح، وفيه
العُجْب واتباع الهوى. والاستبداد يُنْبئ عن خِسة لا مثيل لها، فالمستبد نذل لأنه
يعلم علم اليقين أنْ لا غناء له عن الآخرين، إذ الناس بعضهم لبعض وإن لم يشعروا
خدم، ويعلم أن وجوده لا يقوم إلا بوجودهم، لكنه يأبى أن يقابلهم بالجميل الذي هم
أهل له، والمعروف الذي يستحقونه، والخير الذي يأتيه منهم. فتراه يقابل خيرَهم بشر،
ويذلهم ولا محيد له عنهم. فأي نذالة أكبر من هذه؟
إن
الفطرة تأبى أن ترى في الذي يلي أمر الناس غير النبل. فالأمير أسبق الناس لصنائع
المعروف، وأعجلُهم إلى البر، وأكثرهم حبا للإحسان، إذ استمالةُ القلوب لا تكون إلا
به. والأمير أدمث الناس خلقا، وأبعدهم عن الفظاظة. "ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا
من حولك"، صدق رب العزة. أقوى الناس عنده الضعيف حتى يأخذ الحق له، وأضعفهم عنده
القوي حتى يأخذ الحق منه. فيا عجبا وألف عجب ممن يلي أمر الناس ثم يظلمهم! ولقد كان
ذو النورين يُطعِم الناس طعام الإمارة، ويدخل بيته فيأكل الخل والزيت. بذا ومثله
يستميل الأمير قلوب الناس. والأمير أحوج ما يكون إلى تأليف القلوب عليه، ولا ألفة
مع الظلم. فلا تميل قلوب الجماعة إلى الأمير إلا إذا ساسها بالعدل. وشاهدُ ذلك كله
فعالُ الأمير لا أقواله، إذ الأمير في غنى عن كثير الكلام، بله التشدق والتصنع،
والمَن والرياء استجلابا للمدح والثناء.
ويجمع ذلك كله خصلة التواضع. فالتواضع أمَارة كرم النفس وأصالة المحتِد. ولذلك لا
يعمدُ الأمير إلى مظاهر الأبهة إلا إذا كان دنيء النفس، يعلم من نفسه ألا فضل له
على عامة الناس فيسودهم به، ولا شيء معه يَميزُه عن رعيته. فليت شعري بم يمتاز
الأمير فيحكم إن لم يكن بعلمٍ أوتيَه أو خُلُق جُبِل عليه؟ فمَن عدمهما تدثر بما
يَكْفُر خواءه، ويستر عورته، ويُخفي معايبه. فلا يستجلب الأمير من مظاهر الأبهة إلا
بمقدار ما فيه من خواء، سِحْراً للعيون، عساها لا ترى المكنون. إن الأبهة أمارة
الخواء، ودليل الكذب والمَين، وشاهد السوء ودَرَن القلب، وعلامة الخبث والمكر، ولا
يحيق المكر السيء إلا بأهله. يبلغ مظهر الأمير الغارقِ في أبهته، المستمسكِ بمظاهر
الزيف، مبلغاً من الإهانة لرعيته لا يُقدَّرُ. فهذا الطاووس المتبجح يقول للناس
لستُ من طينتكم. خُلِقت لما ترَون، وخُلِقتم لما أنتم عليه، وما كان كان، قُدِّر
ذلك تقديرا. ومن فوق سبع سماوات صدر الأمر أني السلطان في الأرض، وأنكم رعيتي. لا
يَدَ لي في ذلك، ولا حيلة لكم في تبديله أو تحويله. جفت الأقلام ورفعت الصحف. أي
ازدراء أكبر من هذا؟ وأي خواء أعظم؟
ليس
ما يجعل للحاكم هيبة في قلوب الناس أبهة ولا زينة، أو مجالس وقصور، كلا ولا حاشية
ولا حُجَّاب. وهل يمنعُ ذلك من دخول الأميرِ الخلاء؟
ألا
لا يَعْجبنَّ مستبدٌ من ثورة شعبه، فإن ثورة المظلوم مما فُطرِت عليه النفس الأبية.
وأيّما امرئ ظُلم ولم ينتصر فقد انتكست فطرته. وليس كالعدل يُساس به الناس.