مريمة والرحيل

يسري الغول

[email protected]

كنت قد قررت أن أكتب مقالي لهذا الأسبوع عن أحد الرجال الذين صنعوا من القراءة بوابة لكل طفل بغزة، وقد تجهزت لذلك حتى فوجئت بخبر وفاة الكاتبة والروائية والناقدة العربية الفذة رضوى عاشور. وكم آلمني أن تذوي حياة هذه الكاتبة التي ما زالت تنبض روحها بالحياة والتي كنا بانتظار جديدها لأن المكتبة العربية بأشد الحاجة لمثلها اليوم.

رضوى عاشور التي لم أعرفها جيداً إلا بعد قراءتي لثلاثية غرناطة (غرناطة ومريمة والرحيل) والتي أذهلتني بحكايتها حتى صرت جزءاً من أبطالها. وأذكر كيف كانت روايتها حاضرة معي في عقلي ووجداني عندما زرت قصر الحمراء وبهو الأسود وحي البيازين وغيرها من المناطق الأندلسية التي جعلتني أربط الكلمة بالصورة وكأن مريمة الغرناطية الأندلسية وكأن ليون الأفريقي معي يهيمون عشقاً وشوقاً لشوارع الحمراء وردهات ودروب تلك البقاع.

ماتت رضوى دون أن تموت كلماتها أو حكاياتها، لأنها صنعت تاريخاً موسوماً باسمها، وصارت تلك الثلاثية إلى جانب الروايات الأخرى كالطنطورية وأطياف وسراج وخديجة وسوسن عوالم لكل من يريد أن يعرف تلك الملكة التي تربعت عرش الحكاية والتاريخ.

ماتت رضوى دون أن تنزلق في مواقف سياسية باهتة وخائبة كما حدث مع البعض في زمن صار الحليم فيه حيراناً، وصار المال هو الناظم والموجه للأقلام والأصوات التي تخرج بين الفينة والأخرى في الصحف والمواقع والفضائيات وغيرها. بل اكتفت بنبذ الدم والقتل والعنف، وجعلت من روحها عنواناً للحرية فصار صوتها وابنها ناقوساً يدق في جدران الخزان.

البعض لم يكن يعرف تلك الرضوى سوى بعد معرفته بأنها زوجة الشاعر الفلسطيني الكبير مريد البرغوثي وابنه الشاعر الملهم تميم البرغوثي، حتى تفرغ لقراءة أوجاع الزمان على يديها.

رضوى وزوجها وابنها، ذلك الثلاثي الجميل، كان مفخرة لكل فلسطيني ومصري على حد سواء. فهذه المرأة المصرية التي عانت مع زوجها أشد العذاب بعد منع زوجها من العيش في مصر إبان حكم السادات وتشرد الأسرة هي التي تؤمن بهويتها المصرية الفلسطينية، وبأن العروبة لا تتجزأ، وبأننا كلنا واحد، دمنا وهويتنا، ولقد كانت دهشة كثيرين من رواية الطنطورية أنها لكاتبة مصرية وليست فلسطينية، وأذكر ما كتبته بيان نويهض الحوت عن تلك الرواية: " لأعترف.. بأنني لست من جماعة النقّاد، بل من جماعة القرّاء؛ غير أنني أعتقد أن من حقنا نحن القرّاء، ونحن الأكثرية، أن يقول أحدنا رأيه، وها إني أقول أنني طوال الساعات وأنا أقرأ «الطنطورية» لم أستطع أن أتركها، وما كنت حقيقة أقرأ فحسب، بل أعيش مع أهل الطنطورة، وغيرهم من أهالي الطنطورة الكبرى (أي فلسطين) أعيش مع عذاباتهم، وهجراتهم، ومع الأجيال الثلاثة التي تحكي لنا عنها رقيّة.    

رحم الله رضوى التي أبت إلا الرحيل كمريمة لتترك فلسطين كما الأندلس تحت نير الاحتلال.