الركون إلى الأوطان الجاهزة

زهير سالم*

[email protected]

هل يُبرد نار العشق ؟!!

ولا سرت ميلا من دمشق ولا بدا    سـهيلٌ لأهل الشـام إلا بدا ليـا

* * *

رغم أنهم أطلقوا على لامية ابن الوردي التي مطلعها:

اعتزل ذكر الغواني والغزلْ     وقل الفصل وجانب من هزلْ

اسم لامية العرب. فإنني أظل أميل إلى لامية الطغرائي التي مطلعها:

أصالـة الـرأي  صانتنـي عن الخطل

وحليـة الفضـل زانتنـي لدى العطـل

مجـدي قديمـا ومجـدي أخيرا شـرع

والشمس رأد الضحى كالشمس في الطَفَل

حـب الســلامة  يثنـي همّ صاحبـه

عـن المعالـي  ويغري المرء بالكسـل

فــإن احتجـت إليــه فاتخـذ نفقـا

فـي الأرض أو سـلما في الجو فاعتزل

ودع غمـار العلـى للمقـدميـن علـى

ركوبهــا واقتنــع  منهــا بالبلـل

رضـا الذليـل بخفض العيـش يخفضه

والعـز تحـت رسـيم الأينـق الذلـل

أظل أميل إلى هذه التي أطلقوا عليها لامية العجم، فهي أقرب بروحها وعجيجها إلى لامية الأول القائل:

أقيموا بني أمي ظهور مطيكـم    فإني إلى قوم سواكم لأميـل

فقد حمت الحاجات والليل مقمر    وشدت لطياتٍ مطايا وأرحل

ولي دونكم أهلون سيد عملـس    وأرقط زهلول وعرفاء جيأل

ومع أنه لا شيء بيني وبين الرجل الصالح عمر بن الوردي إلا أن في لاميته من القيم السلبية ما يعتبر بحق عنوانا لقرون من الكمون والتخلي وإدارة الظهر إلى الحياة.. أليس هو القائل في لاميته التي حسبت زورا على العرب:

جانب السلطان واحذر بطشه    لا تعانـد من إذا قال فعـل

وكثيرا ما يتساءل المرء أين تقع هذه النصيحة، التي أصبحت في بلادنا شرعة ومنهاجا حتى في قرننا الحادي والعشرين، من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب  ورجل قام إلى إمام جائر أمره ونهاه فقتله...)

وقطعا على سبق الفهم أقول:( فقتله) أي قتل الإمامُ الجائرُ صاحبَ كلمة الحق، وهو بيان لا بد منه بعد أن قرأت منذ مدة لبعض الصحفيين المتعلقين بالعربية، يستنبط من الحديث أن الإسلام يحض على العنف ويحرض على قتل الحكام، وهو فقه مستمد من فقهاء الأقبية يوم كانوا يفسرون حديث (من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه)، ويقلبون أيديهم يقصدون أن يثبتوا على ضحاياهم تهمة الدعوة إلى الانقلاب..!!

في لامية ابن الوردي التي ساقتنا إلى كل ما سبق يبذل ابن الوردي النصيحة التي كادت تكون هي الأخرى من قوانين العصر الذي نعيش، الرغبة عن الأوطان، والتعلق بالهجرة، والتطلع إلى البلاد التي تتمنطق بالعز أو تتحلب بالسمن والعسل، يقول ابن الوردي :

حبك الأوطان عجزٌ ظاهرٌ        فاغترب تلق عن الأهل بدل

لا أدري لماذا يسوءني أن يتكئ مغترب أو مغرّب على أريكته ثم يبدأ بتعداد مآثر البدلاء من الأهل والوطن الذين اضطر إليهم أو آثرهم، ويثير الحفيظة  أكثر إذا ذهب يعقد المقارنات فجة وغثيثة؛ فلا يذكر فضلا لأرض، ولا يعد مأثرة لقوم، إلا ابتدرتُ أستحضر أو أفند فعلَ الضرّة إذ يجري حديث عن ضرّتها..!!

إن  غمط الناس أو بخسهم أو التعالي عليهم ليس من الكرامة في شيء. ونقر أنه ما من بلد تخلو أرضه وسماؤه وأهله من كثير أو قليل من الكرامة والفضل ولكن جنون العشق فنون قالها من قبل الشيخ عيسى البيانوني عليه من الله الرحمة والرضوان..

جنوني في حبكمُ فنون

وحين ينقلب عليّ البعض بما في دار الوجد من ضعف وثغرة أتذكر ما قال لنا مدرس اللغة العربية يوما بعد أن شرح لنا وهج ما قال جميل في بثينة في داليته ،التي مطلعها:

ألا ليـت أيـام الشـــباب جديـد    ودهـرا تولـى  يا بثيـن يعـود

فنغنـى كمـا كنـا نكــون وأنتـم    صديـق وإذ مـا تبذليـن زهيـد

إذا قلـت ما بي يـا بثينـة  قاتلـي    مـن الحـب قالت: ثابت ويزيـد

وإن قلت: ردي بعض عقلي أعش به    مـع الناس  قالـت ذاك منك بعيد

فلا أنـا مـردود بمـا جئت طالبـا    ولا حبهــا فيمــا يبيـد يبيـد

 قال المدرس تذكروا أن بثينة هذه كانت راعية إبل وشاة حافية القدمين شعثاء الشعر، ممزقة الثياب..!!

كذلك هي ( بانقوسا ) ولكنها كانت بالنسبة للبحتري:

أقـام كـل ملـث الـودق رجـاس    على ديـار بعلـو الشـام أدراس

فيهـا لعلـوة  مصطـاف ومرتبـع    من بانقوسـا وبابلـى وبطيـاس

منـازل أنكـرتنــا بعـد معرفـة    وأوحشـت مـن هوانا بعد إيناس

يا علوُ لو شئت  أبدلت الصدود لنـا    وصلا، ولان لصب قلبك القاسـي

هل من سبيل إلى الظهران من حلب    ونشـوة بيـن ذاك الـورد والآس

العشق وحده هو الذي يجعلك ترى دمشق وحمص وحماة وإدلب وحلب فوق لندن وباريس ومونتريال في الألق والوهج والقدرة على الجذب، واستحقاق التضحية والإيثار بكل شيء..

وقال عبد الملك بن مروان لعزة إذ دخلت عليه وقد أسنت: ماذا رأى كثيّرٌ فيك؟ وكثّيرٌ هوالذي يقول في عزة:

رهبان مدين والذين عهدتهـم    يبكون من حذر العقاب قعودا

لو يسمعون كما سمعت كلامها    خروا لعـزة ركعا وسـجودا

وبعـدُ

الرسالة الأولى  إلى الذين استبدلوا الأهل والوطن، ووجدوا في غيرهما السهل والرحب، حسب معايير قانون السوق الاقتصادي أو الاجتماعي ؛ هي أن أنموذج العلاقة بالوطن  هو من طراز العلاقة بين ليلى  والمجنون، من طراز العلاقة التي تقول:

وإني لأسـتغشـي وما بي نعسـة    لعل خيـالا منـك يلقـى خياليـا

وأخـرج من  بيـن البيوت لعلني    أحدث عنك النفـس بالليـل خاليا

وقد يجمـع الله الشـتيتين بعدمـا    يظنـان كل  الظـن ألا تلاقيــا

فشـب بنو ليلى  وشـب بنو ابنها    وأعلاق ليلى  في الفؤاد كما هيـا

ولم ينسـني ليلـى افتقارٌ ولا غنى    ولا توبةٌ حتى احتضنت السواريا

فما طلـع النجـم الذي يُهتـدى به    ولا الصبح إلا  هيّجا ذكرها ليـا

ولا سرت ميلا من دمشق ولا بـدا    سـهيل لأهل الشـام إلا بدا ليـا

ولا سُـميّت  لها عندي من سـمية    من النـاس إلا بلّ دمعـي ردائيا

ولا هبت ريـح الجنوب لأرضـها    من الليـل إلا بت  للريح حانيـا

فإن تمنعوني ليلى  وتحموا بـلادها    عليّ فلن تحمـوا  عنـي القوافيا

أو  تكون العلاقة على ما رسم جميل لبثينة،  وبثينة إن غابت أو حضرت فلا يكون في عيني جميلها لا قبلها ولا بعدها نساء..

ويحسب نسوان من الجهل أنني    إذا ما جئت إياهن كنت أريد

فأقسـم طرفي بينهن فيسـتوي    وفي الصدر بون بينهن بعيد

يقولـون جاهد يا جميل بغزوة    وأيَّ جهـاد غيرهـن أريـد

لكـل حديث بينهـن بشاشـة    وكل قتيـل بينهـن شــهيد

حين تبرد نار العشق هذا يسترخي العاشقون ويأخذون بالتمطي والتثاؤب، ويشغلهم ما يجمعون أو ما يفقدون عن ليلى وبثينة وعزة وعلوة أيضا..

والرسالة الثانية للمؤثرين للدعة، والمتضرجين بنعيم محدث صاروا أو طاروا إليه.. أن هذه الأوطان التي يتبارون في التغزل بمحاسنها كان لها أبناء بررة ضحوا وجدوا وزرعوا وأسسوا وسهروا وزاحموا حتى أسسوا ثم بنوا فأعلوا وأن من بعض من صار إليهم وجد فسطاطا منصوبا فأوى إليه ولم يكن من شأنه إلا أن يقول :ما أجمله!!  وما أحسنه..!!

وحين تبرد نار العشق في قلب فلا معنى لذكرى الحبيب والمنزل، فلا تقف

وحين تتحول الأم البهية في عيني من ولدته إلى عجوز شمطاء، تضرب بطنها وتنادي: ليتني كنت عقيما..

هذه أوطان تنادي أبناءها، وأرحام معلقة تحت عرش الرحمن تجأر: اللهم صل من وصلني واقطع من قطعني..

ولولا حب الوطن لخرب موطن السوء فكيف إذا كان هذا الوطن فيحاء وشهباء..

                

* مدير مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية

*مدير مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية