الزمن بين العبور والاعتبار
ناديا مظفر سلطان
يسعى الفتى وحمام الموت يدركه وكل يوم يدني للفتى أجلا
إني لأعلم أني سوف يدركني يومي، أصبح ،عن دنياي، مشتغلا
(حاتم الطائي)
وهكذا فالتأمل في سيرورة الزمن وانقضاء الأيام في رحلة الحياة الموجزة قضية كتب فيها الأدباء والشعراء ، كما وعظ فيها الأنبياء، واشتغل لها العلماء و فطن لها البعض من الناس من أولي الألباب .
فالأنبياء لم يعن لهم الزمن سوى أنه مسافة ضئيلة ذات بداية ونهاية ، الغاية منها التزود لرحلة الخلود ، وظل مؤقت يستظل به المرء برهة وهو يغادر إلى عالم آخر أبدي المقام .
ونبي الله نوح عليه السلام عاش ألفا إلا خمسين عاما ولما أتاه ملك الموت استأذنه في الانتقال من الشمس إلا الظل ولم تعن له أعوام العمر المديدة بأكثر من هذه اللحظات بين انتقاله من النور إلى الظل .
و يروى عن نبي الله عيسى عليه السلام ، أنه قد سافر مرة و بصحبته رجل من اليهود وكان معهما ثلاثة أرغفة من الخبز ولما أرادا أن يتناولا طعامهما وجد عيسى أنهما رغيفان فقط ، فسأل اليهودي: أين الرغيف الثالث ، فأجاب : والله ما كانا إلا اثنين فقط.
لم يعلق نبي الله وسارا معاً حتى أتيا رجلاً أعمى فوضع عيسى عليه السلام يده على عينيه ودعا الله له فشفاه الله عز وجل ورد عليه بصرَه , وهنا سأل عيسى صاحبه اليهودي مرة أخرى: بحق من شافا هذا الأعمى ورد عليه بصره أين الرغيف الثالث، فرد اليهودي: والله ما كانا إلا اثنين.
سارا ولم يعلق سيدنا عيسى على الموضوع حتى أتيا نهرا كبيرا، فقال اليهودي : كيف سنعبره؟ فقال له النبي: قل باسم الله واتبعني ، فسارا على الماء ، وهنا سأل عيسى صاحبه اليهودي مرة ثالثة :بحق من سيرنا على الماء أين الرغيف الثالث؟ فأجاب : والله ما كانا إلا اثنين. لم يعلق سيدنا عيسى وعندما وصلا الضفة الأخرى جمع عليه السلام ثلاثة أكوام من التراب ثم دعا الله أن يحولها ذهباً ، فتحولت الى ذهب، فقال اليهودي متعجبا: لمن هذه الأكوام من الذهب؟؟!
فقال عليه السلام: الأول لك، والثاني لي ، وسكت قليلا ، فقال اليهودي: والثالث؟ فقال عليه السلام: الثالث لمن أكل الرغيف الثالث! ، فرد بسرعة: أنا الذي أكلته! فقال سيدنا عيسى : هي كلها لك ، ومضى تاركاً اليهودي غارقاً في حب المال والدنيا. بعد أن جلس اليهودي منهمكا بالذهب لم يلبث إلا قليلا حتى جاءه ثلاثةُ فرسان ، فلما رأوا الذهب ترجلوا ، وقاموا بقتله .
بعد أن حصل كل واحد منهم على كومة من الذهب بدأ الشيطان يلعب برؤوسهم جميعا، فدنا أحدهم من أحد صاحبيه قائلا: لم لا نأخذ أنا وأنت الأكوام الثلاثة ونزيد نصف كومة إضافية بدلا من توزيعها على ثلاثة، فقال له صاحبه: فكرة رائعة!!! فنادوا الثالث وطلبوا منه أن يذهب ليشتري لهم طعاما؟ فوافق هذا ومضى لشراء الطعام.
وفي الطريق حدثته نفسه فقالت له: لم لا تتخلص منهما وتظفر بالمال كله وحدك؟! فقام بوضع السم في الطعام ليحصل على المال كله ، وهو لا يعلم كيد صاحبيه له ، وعندما رجع استقبلاه بطعنات في جسده حتى مات، ثم أكلا الطعام المسموم فما لبثا أن لحقا بصاحبيهما وماتا... وماتوا جميعاً. وعندما رجع نبي الله عيسى عليه السلام وجد أربعة جثث ملقاة على الأرض ووجد الذهب وحده ، فقال: هكذا تفعل الدنيا بأهلها فاعبروها ولا تعمروها
وفي صحيح البخاري عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال :أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنكبي ،فقال:
"(كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل).
وأما الأدباء فقد أثرى الإحساس بالزمن خيالهم وأوقظ في قريحتهم حلما جامحا بل وجعلوه مطية خرافية سافرت بهم إلى عوالم مستحيلة والروائي الانكليزي (هربرت جورج ويلز) يعتبر رائدا في هذا المجال وفي روايته( آلة الزمن )عام 1895 وثب إلى المستقبل البعيد ليرسم صورة ذهنية عبقرية من عالم مثالي ..حتى جاء العالم( البرت آينشتاين) وفجر ثورة حقيقية في عالم الفيزياء والرياضيات
فجعل من الحلم حقيقة ومن الخيال الجامح مطية طائعة عندما اعتبر ان السفر عبر الزمان والمكان ممكنا بعد أن أضاف بعدا رابعا إلى الأبعاد الثلاثة المعروفة من طول وعرض وارتفاع ، وأعلن مصطلحا جديدا سماه (الزمكان) في نظريته النسبية الخاصة وهو السفر عبر الزمان والمكان معا في ان واحد .
و نظرية آينشتاين تفيد أنه لو سافر رائد فضاء في مركبة تنطلق بسرعة الضوء إلى نجم يبعد عنا سنة ضوئية واحدة م عاد إلى الأرض فسيجد أن العامين اللذين قضاهما في رحلته قد أصبحا نصف قرن من زمن الأرض ولو أن لذلك الرائد شقيقا توأما على الأرض وودع شقيقه وكلاهما في الثلاثين من العمر عند بدء الرحلة فسيعود الأول من رحلته وهو في الثانية والثلاثين ليجد توأمه في الثمانين وذلك لأن عقارب الساعة سترتبط بالزمن الذي تنطلق به سفينة الفضاء أي أنها ستسير بنفس السرعة في حين أن الساعة الثابتة على الأرض ستتوافق مع سرعة دورانها حول نفسها وحول الشمس فحسب ولكن نظرية آينشتاين أشارت إلى أمر آخر أكثر أهمية في عملية السفر عبر (الزمكان) إلى (الثقوب السوداء ).
وهو أيضا مصطلح حديث نسبيا وكان الفلكي الأمريكي (جون هويلر) أول ما استخدمه ليصف به بعض النجوم التي لها كثافة عالية الأمر الذي يمنحها قوة جذب هائلة يجعلها تعمل ك مكنسة كونية لا ترى ولكن تبتلع كل ما تصادفه في طريقها وحتى الضوء لا يستطيع الهروب منها
والقرآن المعجزة الخالدة عبر الأزمان قد اختصر كل ما قاله العلماء عن الثقوب السوداء وفي سورة التكوير
" فلا أقسم بالخنس الجوار الكنس" 15-16 وهذه الآيات تعرض ثلاث حقائق (الخنس )أي التي تختفي ولا تظهر أبدا
( الجوار) أي التي تجري وتتحرك بسرعة هائلة( الكنس) أي التي تكنس وتبتلع كل ما تصادفه في طريقها.
والتوغل خلال آفاق الزمن سبقا إلى الأمام أو نكوصا إلى الوراء ،سعيا للمستقبل أم عودا إلى الماضي، لا يعني النفاذ من أقطار محكمة الإغلاق بين السماوات والأرض والبعد الرابع المضاف إلى الثلاثة السابقة هو (فسحة )في الزمكان ولكنه ليس (انعتاقا )منه . وفي سورة الرحمن:
"يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السموات والأرض فانفذوا لا تنفذون إلا بسلطان"33
و(المرؤ يولد وهو يحمل بذور فنائه) سواء امتطى صهوة الزمن مسافرا عبر السنين الضوئية أو لاذ قابعا في الظلال المنسية
والموت مدركه ولو اعتلى برجا مشيدا أو صرحا ماردا
و(مايكل) الكندي الذي اعتنق الإسلام منذ بضع شهور قد أدرك هذه الحقيقة وأن الزمن بعد، والبعد قطر، والقطر قيد رابع كما يدرك ذلك أي من (أولي الألباب) وعرف أيضا أنه في لعبة سباق متسارعة مع الزمن فأخذ ينهل من علوم القرآن في سعي حثيث خشية أن يخسر ويعلن بندم يائس ذات يوم :
"حتى إذا جاء أحدهم الموت قال رب أرجعني أعمل صالحا فيما تركت
كلا
إنها كلمة هو قائلها ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون" المؤمنون" 100