"السلام على الأرض".. وبين الناس
"السلام على الأرض".. وبين الناس
صبحي غندور*
في مثل هذه الأيام التي تشهد احتفالات عيد ميلاد السيّد المسيح، عليه السلام، يتكرّر استخدام قوله: "المجد لله في العُلى وعلى الأرض السلام". وهو قولٌ يجمع بين ما هو حتمي لا خيار إنساني فيه (المجد لله) وبين ما هو واجب مستحق على البشر تنفيذه، أي تحقيق السلام على الأرض. هو قولٌ يُلزم المؤمن بالله ومجده أن يعمل من أجل الخير والسلام على الأرض، تماماً كما هو الأمر في العقيدة الإسلامية لجهة التلازم بين الإيمان والعمل الصالح.
لكن هناك أيضاً ما هو سلبيٌّ مشترَك الآن بين "الشرق الإسلامي" و"الغرب المسيحي"، وهو حجم المسافة الشاسعة بين ازدياد عدد الممارسين للشعائر الدينية، وبين قلّة عدد من يطّبقون ما تدعو اليه الرسالات السماوية من قيم وأعمال صالحة ومن واجب نشر روح المحبة وتحقيق السلام بين البشر.
ولعل المأساة تظهر جليّةً الآن من خلال حروب وفتن حدثت أو قد تحدث تحت "شعارات دينية" في أكثر من مكان شرقاً وغرباً. بل إنّ كل مُشعِل الآن لحربٍ أو لفِتنة على الأرض يختبئ وراء مقولات تستند إلى ادّعاءات الوصل بالأديان، والأديان منها براء. الكلُّ يتحدّث عن "الإيمان بالله تعالى" بينما على "الأرض الحرب" من الذين يبحثون عن مجدهم فيها.
***
كم هو سهلٌ التحقّق من ممارسة البعض للعبادات أو عدمها، بينما من الصعب حصر ما يقوم به الإنسان من "عمل صالح" أو مدى التزامه فعلاً بالقيم الدينية.
وقد انقسم الناس في كلّ الأزمنة والأمكنة على أنفسهم بين "الأنا" و"الآخر". فكانت الصراعات بين الأفراد والجماعات والأمم تخضع لاختلاف الرؤى وتناقض المصالح بين من هو في موقع "الأنا" ومن هو في الموقع "الآخر". هكذا هي سيرة البشرية منذ تناقض مفاهيم ومصالح قابيل مع شقيقه هابيل، وكلاهما من أبناء آدم عليه السلام.
وغالباً ما يقع الناس في أحد محظورين: تسفيه الإنسان الآخر والتعامل معه بأقلّ من قيمته كإنسان، فيتمّ استعباده أو استغلاله أو التحكّم بمصادر رزقه أو إهانة كرامته لمجرّد التواجد في لحظة معينة في موقع آخر أقلّ قدرة أو أكثر حاجة. أمّا المحظور الآخر، فهو حينما ينظر الإنسان إلى بعض الناس وكأنّهم أكثر من إنسان آخر، كأن يقدّسون هذا الإنسان أو يرفعون من شأنه ومن قيمته إلى ما يفوق بشريته مهما كان عليه من صفات كريمة أو طبيعة خاصّة.
في الحالتين: التسفيه أو التقديس للإنسان الآخر، هناك ظلمٌ يحدث، فإمّا هو ظلم الإنسان للآخر من خلال تحقيره، أو هو ظلمٌ للنفس من خلال تقديس من هم بشرٌ مثلنا مهما علا شأنهم أو عظم دورهم الفكري أو العملي في هذه الحياة.
ولقد سبقت الرسالات السماوية حالاتٌ كثيرة لدى شعوب مختلفة فيها رؤى وممارسات احتقرت وأهانت الإنسان الآخر من جانب، أو جرى فيها تقديس وعبادة لأناسٍ آخرين. لذلك جاءت الرسالات السماوية واضحة في دعوتها للناس بعبادة إله واحد هو خالق كل شيء، وبالتأكيد على إنسانية الإنسان مهما ارتفع أو تدنّى في حدود القيمة الإنسانية.
لكن أين هي هذه المفاهيم في واقع وسيرة الناس، أفراداً كانوا أم جماعاتٍ وأمما؟ صحيح أنّ الرسالات السماوية وضعت الكثير من ضوابط السلوك الإنساني تجاه الآخر والطبيعة عموماً، لكن البشر الذين أكرمهم الله أيضاً بمشيئة الاختيار بين الخير والشر، بين الصالح والطالح، لا يحسنون دوماً الاختيار، فتتغلّب لديهم الغرائز على القيم، والمصالح على المبادئ، والأطماع على الأخلاق. فتكون النظرة إلى "الأنا" قائمة على مدى استغلال "الآخر" وتسخيره، وليس على المشترَك معه من مفاهيم وقيم إنسانية.
ولعلّ في لائحة المفردات التي تشمل: الاستعباد، العنصرية، الاستغلال، الاحتقار، الكراهية .. وغيرها الكثير من التعابير التي تصف رؤية أو ممارسات بعض الناس تجاه البعض الآخر، ما يلخّص مشكلة خروج الإنسان عن فهمه لنفسه وعن فهمه أيضاً للآخر.
وكم من حروب وصراعات دموية حصلت وتحصل لمجرّد وجود الإنسان "الآخر" في موقع طائفي أو مذهبي أو عرقي أو مناطقي مختلف، دون حتّى أي معرفة مباشرة بهذا الإنسان "الآخر"!!
ثمّ في حالات معاكسة، كم أخطأت شعوب وجماعات حينما قدّست بعض قادتها ونزّهتهم عن أي خطأ أو عقاب!؟
فنفي وجود "الآخر" ونكران حقوقه هي مشكلة من لا يرى في الوجود إلا نفسه، ومن لا يرى في الآخر إنساناً له حقّ التكريم الذي منحه إيّاه الخالق تعالى ولا يمكن أن تنزعه عنه إرادة أيٍّ من البشر.
وكم يغفل الكثير من الناس عن حقيقة الوجود الإنساني في الحياة الأولى، وعمّا هو موعودٌ يوم الحساب في الحياة الآخرة. فكلُّ البشر هم تواصل مع الإنسان الأول ومن سلالته، وحياتهم مرتبطة بحياة الإنسان الآخر، بينما تُحاسب كلُّ نفسٍ في الآخرة على أعمالها فقط، فتنفصل المسؤولية المشتركة عن الحياة عند لحظة الموت، ليكون الثواب والعقاب تبعاً لميزان العدل مع النفس ومع الآخر، أو بتعبير آخر، بمقدار ظلم النفس وظلم "الآخر".
***
إنّ "السلام على الأرض" ليس هو فقط سلام الناس من الحروب والنزاعات العسكرية، فالعالم اليوم يدفع ثمن مزيجٍ من العوامل التي تراكمت في العقود الماضية وجعلت الكرة الأرضية موزّعةً بين "شرق وغرب" في أزماتها السياسية والعسكرية، ثمّ بين "شمال وجنوب" في أزماتها الاقتصادية بحيث لم تسلم بقعةٌ على هذه الأرض من آثار ما فعله "الإنسان" المستخلَف عليها لرعايتها وإعمارها، حتّى القطب الشمالي المتجمّد مهدّدٌ بالذوبان بفعل ما خلّفته "الحضارة الصناعية" من تأثيرات سلبية على المناخ.
وإذا كان مفهوماً ما تخلّفه الحروب والكوارث الطبيعية من حالات تشرّد وجوع وبطالة، فما تفسير هذه الحالات في مجتمعاتٍ لا هي في حروب ولا تعيش مخلّفات كارثة طبيعية، إلا أن تكون هذه المجتمعات مفتقرة لقيمة "السلام الإجتماعي على الأرض" بسبب غياب العدل الاجتماعي والسياسي، بينما هي غنيّة بالفساد والاحتكار وسوء توزيع الثروات الوطنية وهيمنة البعض من الجشعين الفاسدين على مقاليد الحكم فيها.
وقد انشغل العالم في العقدين الماضيين بمقولة الديمقراطية السياسية بعدما انهارت تجربة الأنظمة الشيوعية التي كانت تهتمّ بمسألة العدل الاجتماعي فقط، وتقف سلباً ضدّ قضايا الدين والقوميات والحرّيات العامّة وصيغ نظام الحكم الديمقراطي.
وهاهو العالم اليوم يعاني أيضاً من تجاهل مسألة "السلام الاجتماعي" على الأرض وغياب العدل بين النّاس وحق كل إنسان في لقمة العيش والعمل والسكن والضمانات الصحّية والاجتماعية بعدما انشغلت الأمم في صراعات حول قضايا "الدين والقومية والديمقراطية"، وفي ظلّ مشكلة انحسار المفاهيم الصحيحة لهذه القضايا الكبرى المعنيّة بها البشرية جمعاء. فالرسالات السماوية كلّها حضّت على العدل بين الناس وعلى رفض الظلم والطغيان والجشع والفساد والأستعباد للبشر، وعلى إقرار حقّ السائل والمحروم، بينما تتحوّل المناسبات الدينية الآن إلى "سوق تجاري كبير" وإلى موسم رحلات سياحية!!