مَنْ ذا أصابكِ يا بغدادُ بالعينِ 2
مَنْ ذا أصابكِ يا بغدادُ بالعينِ ؟!
(2/3)
د. جاسم العبودي
لا تفكر بنخيل الوطن، فالجلاد ينتظرك حتى في برميل الزبالة، والعالم يتفرج كيف يموت مليون طفل أو أكثر في الحصار، وقاموسك هو الآخر أُصِيبَ بالجفافُ، فتسمِّي "القرصان قبطاناً"؛ وهو الذي اغتصب شمس الوطن، وزرع قنابل النابلم في حقول حنطة حلبجة.. "حزِين الجبل يتنفس سموم العار"، وأشعل النيران في سنابل عنبر المِشْخَاب والشَّامِيَّة والعمارة، وقطعَ رأس كلِّ سنبلةٍ تتكلَّمُ مع سنبلةٍ أخرى في النجف وأربيل والموصل والبصرة والناصرية والثَّورَة والأهوار..
وأبحثُ في درج المكتب عن مقص، فأعثر على قصاصة للشاعر علي السبتي (1):
"وبغداد كانت قمر = ألا فتى من مضر = يعيد لغبداد [كذا] وجه القمر!" (2)
يا "رَيّال" ! ما فتئ لبغداد وجه كالقمر، ولكنَّ الأقزام اليومَ زجاجٌ فوقَ بعض يتكسَّر، سواء في منتجع شرم الشيخ أو في دهاليز "البيت الأسود"، وإذا كانوا أمام نهد صبية، الله يستر.
أحلم بحبك يا بغداد.. يا أحلى من كل كلمات العرب والعجم، حتّى ولو لم يبقَ في ساحاتِك سوى الذبابِ والحُفَر، وأعمدة مكسورة وأرصفة مهجورة.. فإن طيرك - يا حبيبتي - يكبر كحقل أخضر، ونورك يسافر في كل البلدان.
يا أبناء الله لا تكونوا لبغداد بين محبِّ أو عدوِّ أو شامت أو متفرج أو متطير، فبغداد - رغم النـزيف - سيف الخليج، وقلب الجزيرة العربية، ورمح دمشق، خيمة كل العرب، وتفاعيل قصيدة الدول المغاربية، وغيمة وردية لكل الشاربين.
فعشْ واحداً أو صِلْ أخاك فإنهُ = مقارفُ ذنْبٍ مرَّةً ومُجانِبُهْ
تقول الشاعرة الكويتية المعروفة سعاد آل صباح (مواليد 1942) من قصيدة رائعة ألقتها في مهرجان المِرْبَد عام 1985:
"لماذا تقاتل بغداد عن أرضنا بالوكالة = وتحرس أبوابنا بالوكالة = تحرس أعراضنا بالوكالة = وتحفظ أموالنا بالوكالة ؟ = لماذا يموت العراقي حتى يؤدي الرسالة = وأهل الصحارى = سكارى وماهم بسكارى = يحبون قنص الطيور = ولحم الغزال ولحم الحبارى ؟ = لماذا يموت العراقي والآخرون = يغنون هنداً ويستعطفون نوارا ؟ = لماذا يموت العراقي والتافهون = يهيمون كالحشرات ليلاً ويضطجعون نهارا ؟ = لماذا يموت العراقي والمترفون = بحانات باريس يستنطقون الديارا ؟ = ولولا العراق لكانوا عبيداً = ولولا العراق لكانوا غبارا"..
المشكلة عويصة يا ناس.. شعب ما برحت هيضة الخيبة السياسية تفارقه.. جاع منها بعد شبع، وعرى فيها بعد بذخ، وعطشَ، وكأن تركيا الضرّة العزيزة لم تمصّ حليب دجلة والفرات !، ولا إسرائيل تحرق مصاحفنا !، ولا "نتن ياهو" يصلب المسيح في بيت لحم !، ولا المسجد الأقصى يدنسه النازي شارون !، ولا "إنتفاضة الأقصى" تغتالها دبابات وصواريخ عشيق مونيكا - و"التـبابعة الجُدد" يطالبون الأمم المتحدة " بتقصي الحقائق فقط" - ولكن بغداد أصبحت تؤرق ساسة حكومات رعاة البقر والأذلاء القراقوز !.
أجل، "ابقوا في برميلكم المملوء نملا وبعوضا وقِمامه"، "يجي يوم يصعد الشط لبيوتكم، وكل الشرفاء وَنِزِل طَولة حاج أحمد آغا، وحمادي العربنجي، والفَرّاش رَزُّوقِي، وسليمة الخَبّازة، وفتحية أم الباقلا، وأبو البايسكلات، "والنخلة والجيران" (3)، وعشتار وتموز ينشدون: قادمون.. إليكم قادمون.
فمن بقي من هذا الشعب الرازح "تحت موسى الحلاق"؛ بعضه إما أن تغتاله أيدي القذارة، أو تحل عليه لعنة الحصار في داره، والبعض الآخر أمواتٌ في أكفان الحياة راضين أو مرغمين ما زالوا يصفقون لـهُبل أراح اللهُ العبادَ منه ومن أفعاله.
ومن نفذ بجلده منه فنجاه الله من فرعون: إما أن يكدح ليلَ نهار، أو أن يتَّخذ الدموع خدينا على شواطئ النيل، أو يتزوج الرموز فيعيشا معا في قلعة حماد، أو يشَعْل الشموع في التايمز لتفجير لِيمُوسِين الحجَّاج في بغداد، أو يصاحب عمرو بن كلثوم في رحلة تصيد التفاخر في بلاد الشام، أو يلعن الحرب في الهايد بارك، أو يتضرع لحائط المبكى والحزن في السويد، أو "يسبّح" في مقهى أبي علي وهو يلعب "الطاولي" في أجوارد رود، وبين هذا وذاك نجد من سقطت عزيمته، يقول نجم والي (4):
"وقد هجمت غواية القطار المتحرك على قلبه" من دار غربته ألمانيا: "قبل سنوات عندما كنت في بلاد اسمها الجمهورية العراقية رافقت أحد الأصدقاء حتى محطة القطار".
ورحم الله السيّاب، حين يقول: "ناء يذكر بالليالي المقمرات وبالنخيل = وأنا الغريب أظل أسمعه وأحلم بالرحيل = في ذلك السوق القديم" (5)، وقوله:
"الشمس أجمل في بلادي من سواها، والظلام.. =
حتى الظلام.. هناك أجمل، فهو يحتضن العراق" (6)
وفي جنوب إسبانيا؛ ومن مالقة بالذات سنة 1999 تستعيد سميرة المانع (7) تجوالها في الأندلس في أقصوصتها "الروح"؛ مستلهمة آفاقها من قصيدتي "أحزان في الأندلس" و"غرناطة" لنـزار قباني (8) ، وقصيدة "مرثية جديدة" من ديوان (فاكهة الماضي) للشاعر العراقي علي جعفر العَّلاق، فتقول:
"أعادته إلى سطوح مدنه العربية التي هاجر منها مرغما ليعيش في أوربا. إنها دمشق ببهائها، بل بغداد قبل الحروب والبغضاء".
وتغزو المأساة فؤادَ الشاعر السعودي المعروف غازي القصيبي (1940-2010) (9)، حين تسلَّمَ ديوانا صغيرا بعنوان (صمت الأكواخ) للشاعر عيسى حسن الياسري (10) "لم يقرأ له من قبل" كما يقول القصيبي، ويضيف عنه قائلا: "ومن الصفحة الأولى شدني الديوان الصغير، ولم يطلق وثاقي إلا بعد أن انتهيت من آخر كلمة. الشعر الجميل نادر جداً جداً.. جداً.. جداً"، واختارَ منه مقاطع، منها:
"الليلة أعبر عامي الخمسين = وما زلت أعلل امرأتي = وأقول: = يا امرأتي لا بأس عليك = إن أمامي بضع سنين = وسأجعل منك امرأة تملك بيتاً = وسريراً للنوم.. وطاولة تؤوي زوجك = إذ يذكر عشب قراه الأولى منتحباً".
وهذه القصيدة تذكرني بقصيدة (الوحدة) للبيّاتي التي غناها الفنان إلهام المدفعي - لا أدري أين قرأت هذا الخبر - عام 1992 في حدائق قاعة الأورفلي للفنون التشكيلية، في ليلة من ليالي بغداد المقمرة، تقول:
"كقطرة المطر = كنت وحيداً = آه يا حبيبتي، كقطرة المطر = لا تحزني = سأشتري غداً لك القمر = ونجمة الضحى = وبستانا من الزهر = غدا إذا عدت من السفر = غدا إذا أورق في ضلوعي الحجر = لكني، اليوم ، وحيد = آه يا حبيبتي = كقطرة المطر".
إن أيام العمر أقل من تحمل الذل، عبرتَ الخمسين وأنت تعللها ببيت وسرير وطاولة !، لا أباً لك !، إيّاك أن تدعها تسافر بجواز عربي.. دَعْها تنعى الوطن المذبوح على صليب الزنادقة، صباحَ مساء في ضريحي "الكاظم وأبي حنيفة"، وحولها جاراتها ناحبات معية صغارهن الجياع، فذلك يفقأ عيون الجلادين، فليس الوطن مزرعة حفنة من الأقزام.
الملاحظات
1 علي السبتي في ديوانه الثاني (وعادت الأشعار) الصادر عام 1997، بعد ديوانه الأول (بيت من نجوم الصيف) الصادر سنة 1969.
2 محمد حسن عبد الله، "قراءة نقدية في ديوان (وعادت الأشعار)"، مجلة العربي، الكويت، العدد 485، أبريل 1999: 91-95.
3 عُدّت رواية "النخلة والجيران" (1966) لغائب طعمة فرمان، البداية الفنية الحقيقية للرواية العراقية. ولشهرتها فقد اهتم بها النقاد والدارسون كثيرا، انظر: خالد المصري، غائب طعمة فرمان: حركة المجتمع وتحولات النص، دار المدى للثقافة والنشر، دمشق 1997.
4 نجم والي، "من عبث الرحيل"، مجلة الاغتراب الأدبي، لندن 1999، العدد 42، ص: 70-73.
5 زاهر الجيزاني، عبد الوهاب البياتي في مرآة الشرق، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت 1997.
6 السياب، النهر والموت، مكتبة الأسرة: سلسلة الروائع، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1999.
7 سميرة المانع، مجلة الاغتراب الأدبي، لندن 1999، العدد 42، السنة 14: 37-41.
8 نزار قباني، الأعمال الشعرية الكاملة، بيروت 1971: 1|563-568.
9 غازي القصيبي، "شعر الأكواخ الجميل"، المجلة العربية، الرياض، العدد 266، ربيع الأول 1420، يوليه 1999: 20-21.
10 شاعر وروائي عراقي مقيم في كندا، ترجمت بعض دواوينه إلى عدة لغات عالمية، مما دفع مهرجان الشعر العالمي الذي أقيم في مدينة (روتردام) عام 2002 الى منحه جائزة (الكلمة الحرة العالمية).