التسلسل التاريخي لمشاريع قراءة النص القرآني
تلخيص لمشاريع قراءة النص القرآني
ذ. امحمد رحماني
يظهر لنا من خلال جميع المشاريع السابقة التي تبغي إعادة قراءة النصوص الدينة قراءة حديثة ، تدعو إلى تفريغ جعبة النص الديني من مفاهيم العالمية والإطلاقية ونزع صفة الخلود والصلاحية لكل زمان ومكان عنه ، وذلك بغية الالتفاف على حقيقة كونية القرآن الكريم من خلال إحالته إلى التاريخ والنظر إليه باعتباره نصا تاريخيا محكوما بشروط تاريخية وظرفية يزول بزوالها وتعمل على ربط القرآن بسياقات تنزيله وتفسير معانيه تفسيرا تداوليا قاصرا من خلال الخوض في مسألة أسباب النزول والناسخ والمنسوخ والمكي والمدني وغيرها من القضايا ، فالغاية من أرخنة الخطاب القرآني هي العودة بالقرآن الكريم بشكل علمي إلى قاعدته البيئوية والعرقية اللغوية والاجتماعية والسياسية الخاصة بحياة القبائل في مكة والمدينة في بداية القرن السابع الميلادي وهذا الجهد يجد مشروعيته في القول بأن القرآن الكريم خطاب تاريخي يتغير فهمه ومعناه مع تغير الزمان والمكان وبناءا على ذلك فما جاء فيه من عقائد وتشريعات وأحكام تتغير وتتبدل مع تبدل الزمان والمكان وهذا التبدل لا يقصد منه هنا المرونة في الاجتهاد الفقهي المواكب لمتغيرات الواقع عبر الزمان والمكان بمقدار ما يُعنى به عدم صلاحية الحكم الشرعي لكل زمان ومكان فهو وقتي بمعنى أنه جاء لوقت قد مضى ولم يعد يتلاءم مع الوضع الحال وبالتالي يجب أن تتغير تفسيراته بما يناسب الوضع المستجد ، وثمرة هذا الجهد تظهر فقط في كشف اللحظة التاريخية الأولى التي تتكشف عن المعنى المدفون تحت أنقاض المؤامرة الإيديولوجية القابعة في مناهج الدراسات الحديثة ، وذلك أن قراءة النص القرآني كنص محكوم بسقف التاريخ والثقافة من شأنها أن تكشف لنا عن الخلفية السياسية والثقافية للتلاعبات الفكرية ، وهذا النقد سوف يساهم في تعرية النص القرآني من هالة القداسة كما حصل للتوراة والإنجيل لعلمهم أن المسلمين لا يسمح لهم أن يلمسوا القرآن بغير طهارة فما بالك بالقراءة ، واعتبروا هذا من قمة التقديس الذي أفردوا له جهودهم وسعيهم الحثيث من أجل القضاء عليه .
إلا أن الذي حصل بالفعل عند تصفح بنيات التطبيق المنهجي التاريخاني التي ساهمت في انجازها القراءة الحديثة السابقة، هي وقوع أصحابها في فخ التقليد والمحاكاة التطبيقية الهزيلة لما أحدثته الدراسات الاستشراقية التاريخانية على مستوى التوراة والإنجيل، وسوف نحاول الوقوف فيما يلي على عملية الإسقاط الحرفي والتي تنم عن تجاهل مطبق للخصوصية القرآنية والتراثية حتى ليخال القارئ لهذا الحقل أنه بإزاء انبعاث استشراقي مندثر بامتياز.
وسوف نسوق هنا لبعض الدلالات المباشرة التي أفضت إليها الممارسة المنهجية التاريخانية والتي تفصح عن مستوى الخطاب العلماني في سلوكه البحثي للنص القرآني:
- الأسطرة ومشابهة التوراة والإنجيل: تربط القراءات الحديثة بين القرآن والتوراة بوصفه الخطاب الأسطوري فتقول بأن الحكايات التوراتية والخطاب القرآني هما نموذجان رائعان من نماذج التعبير الأسطوري. وأن القرآن كالأناجيل ليس إلا مجازات تتكلم عن الوضع البشري، و هذه المجازات لا يمكن أن تكوِّن قانونا واضحا. فالقرآن الكريم لا يعدو أن يكون نصا أسطوريا.
- تشريعية القرآن الكريم: فالقرآن – كما الأناجيل – ليس إلا مجازات عالية تتكلم عن الوضع البشري لا يمكن أن تكون قانونا واضحا. وإن المعطيات الخارقة للطبيعة والحكايات الأسطورية القرآنية سوف تُتلقى بصفتها تعابير أدبية، أي تعابير مُحوَّرة عن مطامح ورؤى، وعواطف حقيقية، يمكن فقط للتحليل التاريخي السيسيولوجي (الاجتماعي) والبسيكولوجي (النفسي) اللغوي – أن يعيها ويكشفها. وفي هذا تشير جميع مشاريع القراءة الحديثة للنص القرآني بإشارة واضحة إلى نفي كون القرآن الكريم مصدرا للتشريع، فالقرآن في نظرها مجرد مجازات أدبية وحكايات أسطورية ليس لها صلة بالواقع .
- القصص القرآني: وللقراءات الحديثة نفس الموقف الاستشراقي من القصص القرآني في زعمهم نقلها عن التوراة والإنجيل، وتردد مزاعم المستشرقين في وضوح التداخلية النصية بين القرآن والنصوص الأخرى التي سبقته، وأن سورة الكهف تشكل مثلا ساطعا على ظاهرة التداخلية النصية الواسعة الموجودة في الخطاب القرآني، فهناك ثلاث قصص هي: أهل الكهف، وأسطورة غلغاميش (يقصد به: الخضر) ورواية الإسكندر الأكبر (ويقصد: به ذي القرنين) وجميعها تحيلنا إلى المخيال الثقافي المشترك والأقدم لمنطقة الشرق الأوسط القديم. وفي سبيل قيام دراسة نقدية تمحص تلك الأخبار، ينبغي القيام بنقد تاريخي لتحديد أنواع الخلط والحذف والإضافة والمغالطات التاريخية التي أحدثتها الروايات القرآنية بالقياس إلى معطيات التاريخ الواقعي المحسوس.
- الرمزية: تبنى أصحاب القراءة الحديثة منطق التفسيرات الرمزية الباطنية التي هي امتداد لمذهب الرمزية لدى فرويد، وماركس، ونيتشه، والتي ترى أن الرمز حقيقة زائفة لا يجب الوثوق به بل يجب إزالتها وصولا إلى المعنى المختبئ وراءها. وهم كثيرا ما يرددون مصطلح الرمزية في فهم النص، أو ما يسمى بالرمزية السيميائية (الدلالية) في فهم وتفسير النص. ويمجدون التفسيرات الباطنية أو الرمزية للصوفيين، والقراءات المجازية للغنوصيين الباطنيين ويعتبرونها أكثر خصوبة بالمعلومات والدروس المحتمل وجودها في القرآن.
- جمع القرآن الكريم: لجميع أصحاب القراءة الحديثة الموقف ذاته من جمع القرآن الكريم والتشكيك في الروايات الإسلامية حول كتابة القرآن الكريم في العهد النبوي وجمعه في عهد أبي بكر وعثمان، وبعدم تسليم لها ويثنون على الكتابات الاستشراقية الناقدة لصحة جمع القرآن أمثال كتابات المستشرق الألماني نولدكه، في كتابه تاريخ القرآن، وشوالي، وبيرغستراسير في كتابيهما جمع القرآن، وتاريخ النص القرآني، والمستشرق الألماني ربيجيس بلاشير.
- الغيب في القرآن الكريم: ويعتبرونه الأسلوب الممنهج في القرآن لخداع الناس والتمويه عليهم وذلك بالنعيم في الجنة للمجاهدين في سبيل الله وبالنار في الجحيم للمخالفين لتعاليم الله . وأن الخطاب القرآني قد استطاع بهذه الطريقة (ولا يزال) خلع القدسية والتعالي على التاريخ البشري الأكثر مادية ودنيوية والأكثر عادية وشيوعا والاعتباطية الجذرية للأحداث ، وأن الغيب عبارة عن تصورات تشكل مخيالا كونيا تستحيل في الزمان التجريـبي المحسوس الذي نعيشه.