رجل علم وثقافة
مريم سيد علي مبارك/الجزائر
هناك كتب كثيرة معروفة لكتاب كثر معروفين، فإذا قلت لك "الحريق" يتبادر في ذهنك اسم "محمد ديب"، وإذا قلت "ذاكرة الجسد" يتبادر في ذهنك اسم "أحلام مستغانمي"، وإذا قلت "اللهب المقدس" يتبارد في ذهنك من دون شك اسم "مفدي زكريا.."
لكن من يعرف "المقراض الحاد" ؟ ربما القلة القليلة...
القائد، الحاكم، الرئيس، العسكري، السياسي كلها ألقاب اجتمعت لوصف الأمير عبد القادر..الكثير يعلمون أنه كان رجل دولة وقيادة، أكثر مما يعلمون بأنه كان "رجل علم وثقافة"..
إن قلم الأمير عبد القادر هو قلم غيور ثائر على الظلم، وكتبه تأملات في الحياة وأما الرسالة "رسالة المقراض الحاد" التي كتبها في سجنه بأمبواز..ففيها من دروس في الحياة ما يُعجز القارئ على العد والإحصاء..
إن المستعمر الفرنسي توهم بسجنه للأمير أنه أوهن همته وألان عزمه، كلا بل إن الإلهام انصهر في سجن أمبواز حميما ويحموما على وجوه المستعمرين الغاصبين، حميما تدفق من بركان قلم ثائر... يصف الطامعين بما في أيدي الآخرين بالبهائم والكلاب المسعورة والشياطين...
كان الأمير يناضل في ساحة الوغى أو في الورق، حرّا طليقا أو في سجنه سكن البريق سكن الألق...
هكذا كان الأمير نارا ونورا، نارا تلفح بالسيف ونورا يسطع بالقلم
ظنوا بأنه استسلم لكنه في الحقيقة لم يستسلم قط لأنه ظل يحارب بالورق يطعن فرنسا بالقلم داخل سجن أمبواز... وظل أميرا يحكم من عالم السجناء شعبا تغلغل الجهاد في أعماقه...
كتابه "المقراض الحاد" هذا الذي سماه بالرسالة كله ترياق وسموم لذوي العلم وذوي الجهالة.. لذلك استهله بالحديث عن العقل وكأنه أراد أن يقول للذين سجنوه تركت عقولا لا تشيخ ولا تهرم..
تحدث عن الإيمان والكفر والنفاق عن الحياة والموت، عن الجهل والغرور وضرب أروع الأمثلة في ذلك.
رسالة "المقراض الحاد" دروس في الوطنية والإيمان علينا أن نتعلمها في مدرسة الأمير، علينا أن نتلقاها كما يتلقى التلميذ مبادئ التربية والتعليم ومن ذا الذي يكبر عن الطاعة والعلم ؟
مدرسة الأمير عبد القادر، تلك المدرسة التي يجب أن تتلقى فيها الإنسانية جمعاء دروسا في الكفاح والإيمان والعمل، في العزة والكرامة والأمل..دروسا للأجسام والأرواح والضمائر..
"المقراض الحاد" كتبه الأمير دفاعا عن عقيدة شعب ووطن، وقد اعتدى المعتدون على آيات الإيمان في الكون وألبسوها زورا ثوب الإلحاد وشوهوا الحقائق وأعرضوا عن الحق وأثاروا الغبار حول معجزات الرسول محمد صلى الله عليه وسلم وبيناته، فاخترعوا الأباطيل وروجوا الشبهات.. ولذلك عنونه بـ "المقراض الحاد لقطع لسان الطاعن في دين الإسلام بالباطل والإلحاد"
كان يسعى لمهمتين نبيلتين : تحرير الوطن من بين فكي تمساح وتحرير الإسلام من بين ركام الباطل والإلحاد، إنها ثنائية العقيدة والوطن التي ناضل في سبيلها الأمير..فسجل التاريخ أروع قصص الجهاد..
أراد الأمير أن يحرر الحق في هذا الكتاب عارضا آيات الله في الكون ليشاهد القارئ بأم عينه أدلة الإيمان بالله ربه وخالقه ويلمس آثار حكمته وعلمه وقدرته وقوته وبطشه وسلطانه..
إنه أراد أن يحرك العقول ويذكرها بنعم الله التي لا تحصى وبعجز الإنسان وقِزمه.
إنه يسلط الضوء على بينات الرسالة المحمدية التي عليها آمن الأولون وتعاهد الآخرون، ويربط القول الرزين بالسلوك المستقيم والخلق القويم..
إن فكر الأمير عبد القادر واضح المعالم، صادقٌ وصريحٌ، نابعٌ من جذور كينونته الإيمانية، والتصوف الذي وصفوه به لم يكن عنده طرقياً أو كلمة عامة مصطلح عليها، وإنما أعمالاً وصلاحاً وتقى، وتمسكاً بالقرآن والسنة وإجماع صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والعبادات المفروضة حتى الرمق الأخير من حياته، والمبحر في خضم فكر هذا الرجل البطل وتاريخه يدرك ذلك تماما.
إن الأمير عبد القادر لم يعتبر الجزائر وطنا بل اعتبرها أما، فاجتهد لبرها، ووحد كلمة أبنائها وجمع صفوفهم ولمّ شملهم، فلم يكن يصل إلى قرار إلا وقد اتفق عليه الجميع ورحب به الشعب، وبذلك جسّد أروع صلة رحم بين شعب ووطن...بين شعب في شخص الأمير ووطن في شخص الجزائر.
فحكى عنه التاريخ أجمل قصص الوصال وصلة الأرحام التي لم ولن تنقطع حبالها مهما يكن..وكم هي كثيرة الأحداث والمناسبات التي برهن فيها الشعب الجزائري على وحدته وتضامنه وتآزره مع إخوانه بني تربته...
إن الأمير عبد القادر سعى لبناء دولة جزائرية قوية على أسس إسلامية تستمد قوانينها من سماحة القرآن الكريم وعدله..
إنه لم يصنع دولة فقط، بل صنع الرجال الأشداء الذين رفعوا الراية عاليا ولم يبالوا بأشلائهم المتناثرة هنا وهناك...
تتجلى في هذا الكتاب شواهد العظمة الإلهية : آيات الله في السماء والأرض، الأنهار والجبال والبحار، عجائب الخلق وروعة الخالق، رسالة الأنبياء، الجهاد في ثلاث أبواب رئيسية. ناضل الأمير من أجل جنتين جنة في السماء وجنة في الأرض..تلك الجنة كانت ملهمته..وألهمته الجزائر دواوين من الشعر ودواوين من النصر ودواوين من الحرية...
لم يكن وحده طبعا من حرّر الجزائر فبفضل جهاد الكثير من العظماء تحررت، ولكن لا أحد ينكر أنه أظهر جهادا ومقاومة منقطعة النظير خلال أكثر من 17 سنة استشهد أثناءها الكثير من الأبطال، لا أحد ينكر أنه أول من كون جيشا وطنيا منظما وموحّدا وأول من غرس بذور الثورة التي جنى منها الشعب الحرية فيما بعد..
الأميرعبد القادر جمع بين إيمان وجهاد، إيمان راسخ بالله وجهاد في سبيل تحرير الجزائر، لقد غنم بأفضل عملين في الدين والدنيا، سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي العمل أفضل؟، فقال : "إيمان بالله ورسوله، قيل ثم ماذا ؟، قال جهاد في سبيله".
كم هو رائع هذا الأمير !